بتلك الكلمات صدرت شركة Engro Corporation Limited، برقية العزاء في رجل الأعمال الباكستاني شاه زادة داود؛ نائب رئيس مجلس الإدارة بها، فضلًا على وفاة نجله سليمان معه، بينما كانا من الخمسة على متن الغواصة “تيتان” التائهة.
“بقلوب حزينة، نأسى على فقدان نائب رئيس مجلس الإدارة شاه زادة داود ونجله الحبيب سليمان، صلواتنا مع عائلة داود في هذا الوقت المأساوي، ونعرب عن تعازينا القلبية لهم والزملاء والأصدقاء وجميع من حزنوا على خسارة الغواصة التائهة تيتان التي لا يمكن تصورها في جميع أنحاء العالم”.
في الأيام الماضية، تاه 4 من الأغنياء وقائدهم على متن السفينة الغاطسة تيتان، التي ضاعت خلال رحلة استكشافية إلى حطام “تيتانيك” في المحيط الأطلسي، ما يُرجع للذاكرة فيلم “الطائرة المفقودة” الصادر في أكتوبر 1984، الذي يمثّل، بسذاجة السينما المصرية، شعور التائهين الذين ترميهم مركبتهم في بحر من الرمال لا يعلمون إن كانت النجاة ستُكتب لهم منه أم إن الهلاك قد لاحت شارته، في زمن غدا تائهًا هو الآخر بين عوالم المجهول الذي ينتظرونه.
وحسب الجارديان، فإن خفر السواحل الأمريكية أكدوا أن بول هنري نارجوليت وستوكتون راش وهاميش هاردينج وشاه زادة وولده سليمان داود، قُتلوا بانفجار داخلي لغواصتهم التي اتجهت في رحلة استكشافية لحطام السفينة تايتنك، بسعر 250 ألف دولار للتذكرة الواحدة.
فتى واعد.. مات إرضاء لوالده
حسب شبكة “إن بي سي نيوز” الأمريكية، فإن أصغر ضحية على متن الغواصة تيتان، كان الفتى سليمان البالغ 19 عامًا، الذي لم يكن على استعداد لخوض تلك الحلة، ولكنه أقدام عليها إرضاء لوالده في عيد الأب، بينما كان الأخير، البالغ 48 عامًا، مهووسًا بـ”تايتنك” منذ صغره.
وأوضحت عظمة داود؛ شقيقة شاه زادة وعمة سليمان، أن الفتى انضم إلى الرحلة مضطرًا لإثارة رضا والده الذي كان أيضًا على متنها، وعلمت ذلك منه بعدما تحدثت إلى ابن أخيها قبل مغادرة الغواصة، بينما الشاب كان “مرعوبًا”، و”لم يكن مستعدًا قبل الرحلة”، قائلة إن أخاها كان “مهووسًا بالسفينة تايتنك منذ طفولته”.
وبيّنت العمة داود أن الفتى سليمان كان من من أشد المعجبين بأدب الخيال العلمي وتعلم الأشياء الجديدة، ويهوى لعب الكرة الطائرة.
ووفقًا للإذاعة البريطانية بي بي سي، فإن داود الابن قد درس في جامعة ستراثكلايد، وكان في سنته الأولى في كلية الأعمال، بينما كان والده؛ نائب رئيس شركة إنجرو، إحدى أكبر شركات الأسمدة الباكستانية، كما أدار مؤسسة داود هيركليز للاتصالات وكيان داود فونديشين.
سيناريو التيه
يقول جيمس كاميرون؛ مخرج فيلم “تيتانيك”، إن أخبار انفجار الغواصة لم تكن مفاجأة بالتأكيد، وأخبر أندرسون كوبر؛ من صحفيي CNN أنه أجرى 33 غطسًا إلى الحطام بنفسه، ولكنه عندما سمع لأول مرة نبأ حادثة “تيتان” منذ أيام، عرف أن السيناريو الوحيد الذي يمكن أن توصل إليه في ذهنه والذي يفسر ذلك الانهيار للغاطسة، أن صدمة قوية للغاية قد حدثت، لدرجة أنه قضى على النظام الثانوي المحتوي على وعاء الضغط الخاص به ومزود الطاقة وجهاز الإرسال والاستقبال بالسفينة المستخدم لتتبع مكانها، وأشار إلى حصوله على بعض المعلومات الإضافية التي يبدو أنها تؤكد أن الغواصة قد انفجرت تمامًا.
بيئة لا ترحم
قالت السلطات الأمريكية، حسب الإذاعة الوطنية العامة الأمريكية npr، إن الركاب الخمسة على الغواصة تيتان التي كانت تغوص على ارتفاع 13 ألف قدم لمشاهدة “تيتانيك” في قاع المحيط لقوا حتفهم في “انفجار داخلي كارثي”، بعدما عثرت جماعة البحث على مخروط الذيل وغيره من الحطام بمساعدة مركبة تعمل عن بعد على بعد حوالي 1600 قدم من حطام السفينة العتيقة، في أعماق شمال المحيط الأطلسي.
وأشار قائد البحرية في خفر السواحل الأمريكية؛ جون موجر، إلى أن البيئة لا ترحم بشكل لا يصدق أسفل قاع البحر، وأن الحطام الذي عثروا على أجزاء منه يتوافق مع الانفجار الداخلي الكارثي للغواصة.
وقال بول هانكينز؛ مدير عمليات الإنقاذ وهندسة المحيطات في البحرية الأمريكية؛ إن البحرية رصدت بعد انقطاع الاتصال بالغواصة ضجيجًا صوتيًا من قاع المحيط، يوم الأحد، وأبلغت تلك المعلومات إلى القادة القائمين بجهود البحث.
بينما يضيف موجر أن أجهزة الاستماع التي أقيمت أثناء البحث لم تسجل أي علامة على حدوث انفجار داخلي بالغواصة، وأنها عانت من “انهيار كارثي”، حسب قوله.
الرئيس يكره اللوائح والقائد يحب المغامرات
تذكر CNN أن ستوكتون راش؛ الرئيس التنفيذي لشركة OceanGate Expeditions مدير غواصة تيتان البالغ من العمر 61 عامًا، تحدّث من قبل وذكر كراهيته الشديدة للوائح، حيث قال للصحفي ديفيد بوج، من الوكالة، في مقابلة العام الماضي: “في مرحلة ما، تكون السلامة مجرد هدر محض، فإذا كنت تريد فقط أن تكون آمنًا، فلا تنهض من السرير، ولا تركب سيارتك، ولا تفعل أي شيء”.
وحسب الجارديان، فإن هاردينج؛ قائد الغواصة البالغ 58 عامًا، كان طالبًا في جامعة كامبريدج، وحصل على درجة علمية في العلوم الطبيعية والهندسة الكيميائية، وحمل رخصة طيار نقل جوي، وكان لاعبًا في القفز بالمظلات، وعمل سابقًا مع شركة White Desert للسياحة في أنتاركتيكا، لتقديم أول خدمة نفاثة منتظمة لرجال الأعمال إلى القارة القطبية الجنوبية، وذهب أيضًا إلى الفضاء العام الماضي مع شركة بلو أوريجين التابعة لجيف بيزوس.
توفي راش في الانفجار بعدما ظل في صراع مع اللوائح، بينما الفتى سليمان ووالده كانا معًا لاستكشاف الموت على مقربة من “تايتنك”.
بول هنري نارجوليت.. مستر تايتنك
حسب الجاديان، فإن نارجوليت المعروف باسم “السيد تايتنك”، كان قائدًا سابقًا في البحرية الفرنسية، يبلغ من العمر 77 عامًا، حيث درس تيتانيك لمدة 35 عامًا وشارك في عدد من الرحلات الاستكشافية للغواصات إلى الحطام ومئات الساعات من المراقبة، وكان جزءًا من فريق البحث عن حطام السفينة عام 1987، الذي أحضر سلسلة منه.
وفي مقابلة معه العام الماضي، وصف المرة الأولى التي رأى فيها حطام “تايتنك”، بأنه ظلام دامس مغطى بالشعاب المرجانية، كـ”كبسولة زمنية” توقفت فيها الحياة فجأة، مما جعلها رائعة إلى ما لا نهاية للعديد من الناس لأسباب مختلفة، فكان البعض مهتم ببنائه، وآخرون بتاريخ الهجرة إلى الولايات المتحدة، وآخرون مهتمون بالمليونيرات على متنها، ونجوم العصر، قائلًا: “تيتانيك واحة في صحراء شاسعة”.
هل يلوم الفتى والده؟
من غير الممكن تخيّل الأمور كما حدثت تمامًا، ولكن بما لنا في المسرح المصري فُسحة حتى نتخيل ذلك الحدث، حينما جلس المسافرون بمسرحية “سكة السلامة 2000” يلومون بعضهم البعض على تلك الرحلة البائسة التي باتت تقتلهم على مهل، بينما كان بيد كل واحد فيهم ألا يركب الحافلة وينطلق.
اللوم هو العاقبة التي يوجهها الابن لأبيه، ربما فهمها سليمان بينما لم يُرزق داود بذلك الوعي، فمن الممكن أن أدرك الفتى أن الرجوع إلى الماضي هلاك، حتى ولو كان لمجرد الاعتبار منه أو السخرية من أصحاب الحماقات فيه.
لا يعلم أحد ما حدث بالضبط، ولكن يبقى الأثر أن مجموعة من الأغنياء بعصرنا الحاضر ذهبوا لرؤية آثار حطام لسفينة عملاقة كانت تقل ثلة من الأثرياء والوجهاء والفنانين وأصحاب التجارة والمهاجرين إلى الولايات المتحدة.. عالم منتهٍ منذ القدم، ولكنه استأثر أن يُنهي في سبيل الوصول إلى سرّه عمر الفتى سليمان ووالد ومن معهما، وليس من المتوقع أنهما كانا في مزاج جيد لتبادل الاتهامات أو اللوم.
لا بد أن الأب نظر بمأساة لنهاية حياة ولده الذي لم يتم عِقده الثاني، في مشهد مأساوي يجسد قول الشاعر نجيب سرور لابنه شهدي:
إياك تقول م العذاب “هذا جناه أبي”
ما كنت اقولها
وكان أوْلى “أبويا جناه”
أبويا مجني عليه زيي..
وياما غبي
قال ع القتيل إنّه قاتل..
آه يا شهدي آه
تناولت السينما العالمية ثيمة “التيه” بعد فقدان المركبة أيضًا في بعض الأفلام، إلا أن “Cast Away” يظل الأفضل الذي جسّد تلك المصيبة بمعانٍ نافذة من بطل العمل وضحيته، حتى يُشعر توم هانكس المشاهد أن الضياع إنما هو نبذ مقضي به.
ولكن المجتمع لا ينبذ الأغنياء، لأنهم يقبضون عليه من تلابيبه ويسيّرونه كما يشاءون.
ربما تظل الغواصة التائهة “تيتان” لغزًا لا نستطيع حلّه في القريب العاجل، إلا أننا لا نملك سوى أن نأسى للفتى سليمان، الذي عاش اختفى غده تمامًا، وبات يومه في انتظار الموت المحقق، بينما ظل بأمسه يحاول إقناع والده ألا يجني عليه بخوض رحلة الموت، كأنه مشهد تعبيري لقول أبي العلاء المعري:
هذا ما جناه أبي عليّ
وما جنيت على أحد
ثلاثةُ أيام هي الدهرُ كلهُ
وما هنَّ غير الأمس واليوم والغد