بذكرى رحيله.. أمل دنقل شاعر قدسته الكلمات ولم تخذله رائعة «لا تصالح»

في ذكراه.. في الواحد والعشرين من مايو 1983

بذكرى رحيله.. أمل دنقل شاعر قدسته الكلمات ولم تخذله رائعة «لا تصالح»
إبراهيم الهادي عيسى

إبراهيم الهادي عيسى

10:56 م, الأثنين, 22 مايو 23

وحين ضاجَعت أباها ليلةَ الرعدِ
تفَجَّرَت بالخصبِ والوعدِ
واختلجت في طينها بشارةُ التكوين
لكنها نادت أباها في الصباح..
فظل صامتا!
هزته.. كان ميتا!
(الموت في لوحات)

هكذا عبّر أمل دنقل قديمًا عن مرونة الموت الذي لا يستأذن أحدًا ولا يعترف بالحواجز ولا تعترضه يد الرجاء، في قصيدته “الموت في لوحات”، فقد أُصيب بالسرطان وعانى منه لأكثر من ثلاث سنوات، كما أبرز معاناته مع المرض في «أوراق الغرفة 8»، وهي غرفته في المعهد القومي للأورام، الذي قضى به أربع سنوات مقاومًا، حتى غيّبه الموت في السبت؛ الواحد والعشرين من مايو 1983.

“محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل”، وُلد في عام 1940 لأسرة صعيدية بقرية القلعة مركز قفط بمحافظة قنا، وكان والده عالمًا من مشايخ الأزهر، ما أثّر في شخصيته وقصائده، حيث امتلك مكتبة ضخمة ضمت الكثير من كتب الفقه والشريعة والتفسير ومكنونات التراث العربي، بينما أطلق عليه الوالد اسم “أمل” تيمنًا بما حققه الأب بإجازة الأزهر له بالعالِمية في ذات سنة ولادة الابن.

عُرف أمل بالنباهة والذكاء والجد في سنين دراسته بقنا، وحينما رحل إلى القاهرة بعد أن أنهى المرحلة الثانوية التحق بكلية الآداب، إلا أنه انقطع عنها منذ العام الأول ليعيل نفسه، وعمل موظفًا بمحكمة قنا وجمارك السويس والإسكندرية، ثم بعد ذلك موظفًا في منظمة التضامن الأفروآسيوي، ولكنه كان دائمًا ما يترك العمل وينصرف إلى كتابة الشعر.

استوحى أمل دنقل قصائده من رموز التراث العربي، بينما كان السائد في هذا الوقت التأثر بالميثولوجيا الغربية عامة واليونانية خاصة، فقد عاصر الرجل أحلام العروبة والثورة المصرية، ولهذا صُدِم بانكسار مصر في عام 1967 وعبّر عن تلك الكارثة في قصيدته “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” ومجموعته “تعليق على ما حدث”.

أيتها العَّرافة المقدسة..
ماذا تفيد الكلمات البائسة؟
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ..
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار! 
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار..
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار! 
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف قايضوا بنا..
والتمسوا النجاةَ والفرار!
ونحن جرحى القلبِ
جرحى الروحِ والفم
لم يبقَ إلا الموتُ 
والحطامُ..
والدمارْ

(البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)

عرف القارئ شعر أمل من خلال ديوانه الأول “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” الصادر في 1969، والذي أثار فيه إحساس العرب بنكسة 1967، في ملحمة يؤكد فيها على ارتباطه العميق بوعي القارئ ووجدانه، وبعدما تحقق للمصريين النصر في أكتوبر 1973، عارض بشدة ضياعه مرة أخرى وصرخ ضد معاهدة كامب ديفيد، وكتب قصيدته الشهيرة “لا تصالح”.

سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم..
جئناك. كن يا أميرُ الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلكْ
واغرس السيفَ في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
إنني كنت لك
فارسًا،
وأخًا،
وأبًا،
ومَلِكْ!
(لا تصالح)

عبّرت قصيدته “لا تصالح” عن كل ما جال بخاطر كل المصريين، والذي لم يكن الالتحام الوجداني الأخير مع الجمهور، فظهر تأثير المعاهدة وأحداث شهر يناير عام 1977 واضحًا في مجموعته “العهد الآتي”، وذلك ما كبّد أمل مؤنة الاصطدام في الكثير من المرّات بالسلطات، وخاصة بعدما هتفت بأشعاره جموع المتظاهرين وترددت على ألسن الآلاف.

عِندما تهبطينَ على سَاحةِ القَومِ، لا تَبْدئي بالسَّلامْ
فهمُ الآن يقتَسِمون صغارَك فوقَ صِحَافِ الطعام
بعد أن أشعَلوا النارَ في العشِّ..
والقشِّ..
والسُّنبلهْ!
وغدًا يذبحونكِ..
بحثًا عن الكَنزِ في الحوصلهْ!
وغدًا تَغْتَدي مُدُنُ الألفِ عامْ!
مدنًا.. للخِيام!
مدنًا ترتقي دَرَجَ المقصلهْ!
(أغنية الكعكة الحجرية)

نقد أمل دنقل فنيًا

قالت الدكتورة بسمة الخفيفي في دراستها “الرمز في شعر أمل دنقل” بجامعة قاريونس، إن الأدب العربي الحديث قد زخر بشعراء كثيرين، برز من بينهم أمل دنقل باستخدامه للرمز في شعره، سواء على مستوى تركيب الجملة أو النص بشكل عام، مما أضـفى علـى شـعره طابعًا مميزًا وخصوصية معينة ووهبه مذاقًا فنيًا، ويعد استخدام الرمز في شعره من أهم خصائصه التي تستحق البحث والدراسة.

وأضافت أن الشاعر إنما هو أحد طلائع شعراء العصر الحديث، الذين قدموا ما يثري التجربة الشعرية، إلا أنه باحتضانه الثقافة العربية، رغم مدة عيشه القصيرة، ولكنه قدم الكثير، ممثلًا عن تيار التجديد والحداثة.

لافتة إلى أن شعر دنقل إنما غلب عليه الطابع السياسي، حيث كان من أهم القضايا التي شغلت تفكيره “الصراع العربي الصهيوني”، فضلًا على صراع السلطة والمثقف، مما جعل رموزه الفنية تتحرك في مستوى واحد، كما كان للبيئة من حوله وللشعراء العرب تأثير في شعره.

وأفادت أن توظيف التراث والإفادة منه في التعبير به عن قضايا معاصرة، يعد من أبرز ملامح شعر أمل دنقل، ويلحظ سيطرة التراث العربي والإسلامي على شعره، باختيار فترات التوتر والحـرج بواقع التجربة المعيشة للأمة العربية، وتوظيفها توظيفًا يستوعب أحد أبعاد تجربـة القصـيدة أو بتوظيفها جزئيًا أو كليًا، مع شحن القصيدة بالطاقة الإيحائية والجمالية.

بينما قال الدكتور محمد حسين؛ أستاذ الأدب والنقد بكلية العلوم والآداب بجامعة الجوف، إن شعر أمل دنقل “الحداثي” يعد ذا قيمة كبيرة لا يختلف فيها الباحثون؛ قيمة فنية وفكرية، ولعل كتابته بالشكل العمودي كانت مثار تساؤل، ولكنه بصفته واحدًا من شعراء زمن الاستلاب الذين يرفضون الموت ويجابهون الاستسلام، حيث عاصر سقوط الأرض وعانى مرارة الفقد، فقد حاول أن يقاوم بالكلمة متسلحًا بإيمان عميق بوجود غد أفضل يتجاوز المحن التي عرفها تاريخ مصر الممتد.

وأشار إلى أن “حب مصر” مثّل حضورًا بارزًا في شعر دنقل، وكان محورًا أساسيًا ارتكزت عليه عدسة الشاعر الفاحصة، لا سيما وأن ما يُعرف عنه براعته في استخدام اللغة وتوظيفها والتعامل معها بتقنية خاصة، يكشف غوامضها ويجلي مكنوناتها، بتوظيف التقنيات العديدة، مثل التناص والانزياح والتركيز على الإيقاع، ما جعله صاحب أسلوب متميز في عملية نقل ما يجول بخاطره إلى المتلقي.

ومن جانبه، قال الدكتور رجب عبد الرحيم؛ مدرس البلاغة والنقد الأدبي بكلية دار العلوم بجامعة المنيا، إن أمل دنقل يعد من أكثر الشعراء غوصًا في التراث الإنساني على وجه العموم، والإسلامي والعربي على وجه الخصوص، منقبًا عن الجواهر والدرر في ذلك التراث، منتقيًا منه ما يلائم عناوين قصائده المعبرة عن رؤاه المختلفة.

وأضاف أن عناوين أمل التراثية كانت نواة للقصيدة كلها، فما من شيء في القصيدة إلا ولها جزء في العنوان، وكانت عناوينه بحق نصوصًا مصغرة، استطاع أن يكبّرها لتكون قصائد تسر الناظرين، وكانت تلك العناوين مراوغة في بنيتها الدلالية والنحوية وعلاقتها بالقصائد المعبرة عنها، فهي تحتاج لأكثر من قراءة لإماطة اللثام عنها، وفض بكارتها، وكشف مكنوناتها.

وقال الدكتور محمد أبو علي؛ الأستاذ بكلية الآداب بجامعة دمنهور، إن أمل دنقل يعد أحد كبار شعراء العصر الحديث، لافتًا إلى حضور الرمز بوضوح في شعره، ما أدى إلى النهوض بتجربته، حيث كان الرمز من أبرز أدوات الشاعر، لحاجته الدائمة لصياغة معادلات فنية في التعـبير عن الواقع، مضيفًا أن أهم دوافعه لاستخدام الرمز الذي أكسب شـعره قـوة في التأثير، تقنية القناع، والتي تعد من عوامل ثراء الرمز في الفكرة.

وأوضح أن الحرية قد مثّلت ملمحًا دائمًا يتطلع إليه أمل دنقل، فهي جزء أساسي في تكوينه الفكري والسلوكي، وهي مطلـب من الصراع الدائم والمستمر لتكسير وجودي وحياتي وقومي ملح، تتطلب منه نوعًا من الحصافة في التعامل مع عوائقها وثوابتها ومسلماتها، مما دفعه إلى اللجوء إلى الرمز، كما أن شعره كان مشروع محاورة وتفاعل وتجاوز للظرف الموضوعي، أو الواقع الـراهن، ومحاولة للوصول إلى الواقع الممكن.

هل يموت الذي كان يحيا
كأن الحياة أبد
وكأن الشراب نفد
وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد
عاش منتصبًا.. بينما
ينحني القلب يبحث عما فقد
(الجنوبي)

مات أمل دنقل، هاربًا إلى الحرية التي بحث عنها كثيرًا، بعدما أنهكته الدنيا بثقلها الكؤود، فلن يقول أحد لـ”المشرد المجنون”:

لا بد أن يريني أوراقه الرسمية
شهادة الميلاد 
والتطعيم، والتأهيل
والموطن الأصلي والجنسية
لكي ينال الحق في الحرية
(حوار على النيل)

أخيرًا، مات أمل دنقل، في حين ظلت زوجته الصحافية عبلة الرويني تريد إيصال ألمه لمن بيده الأمر؛ رجاء أن يموت الرجل في مأمن، إن لم يجدِ العلاج شيئًا، فلم تعرف السيدة معه طعم “منزل الزوجية” ولا معنى “الأمومة”.

تحتشد القاهرة بملايين السيارات الفارهة، بينما أكبر شعرائها يخطو بقدم واحدة إلى معهد السرطان

عبلة الرويني

إبراهيم الهادي عيسى

إبراهيم الهادي عيسى

10:56 م, الأثنين, 22 مايو 23