بدأت محاولاتى لفك لغز أزمة تمثال شامبليون، يدعس هامة رمسيس الثانى بمدخل الكوليج دى فرانس بباريس منذ 1875، من خلال سلسلة مقالاتى منذ 4 ديسمبر 2023، برد الأزمة لأصولها؛ نحات التمثال «أوجست بارتولدي»، وموضوعه «العالم الفرنسى شامبليون»، والملك المصرى «رمسيس الثاني»، وبلد التمثال «فرنسا»! لأبلور الأزمة بعلاقة النحات بالخديوى إسماعيل الرافض لتمثاله بمدخل قناة السويس 1869، ورجوعه لفرنسا وتحويله تمثاله المرفوض لتمثال الحرية الأمريكى، ثم عمله تمثال شامبليون 1875 انتقاما من إسماعيل ومصر! وطبقا للتسلسل الزمنى فالظاهر بتمثال شامبليون اعتباره انتقاما فنيا من بارتولدى لإسماعيل، وبهذا الأساس الموضوعى والسببى أسست نظريتى للمسؤولية الفنية التقصيرية للنحات بارتولدى (وليس شامبليون أو فرنسا)، برمزية وضعه حذاء شامبليون على رأس رمسيس الثانى، كإهانة متعمدة لكرامة وحضارة مصر والمصريين.
كل بحثى بالمراجع المتاحة بالإنترنت والكتب لإسناد ودعم نظريتى، يخلص لنحت التمثال 1875 (تاريخيا بعد رفض الخديوى إسماعيل لتمثال بارتولدى 1869)، وبالتالى فعنصر الخطأ للمسؤولية التقصيرية لبارتولدى متحقق، بتعمد رمزية الإهانة بوضعية الحذاء على رأس ملك مصرى معلوم الهوية برمز المُلك، وبالمواصفات الفنية لوضعية الرأس تحت الحذاء. هذا الفعل بذاته، يجوز إسناده وتكييفه بصفة الخطأ العمدى الفنى والقانونى من بارتولدى، لمخالفته أصول الفن التشكيلى وميثاق حقوق الإنسان. وأصبح الأمر محسوما لحشد الوثائق والمستندات التاريخية والآراء الفنية المكرسة والداعمة لنظريتى السابقة، لوضعها أمام الحكومة الفرنسية الحالية حفيدة الثورة الفرنسية سنة 1789 ذات الأهمية المباشرة للعالم كله، بمبادئها الأربعة؛ حرية المواطن / حظر السجن إلا فى الحالات التى يحددها القانون / لكل أمة أو شعب الحق بمشار كة الحكومة بوضع القـوانين / حمايـة الحقـوق الطبيعيـة للإنسان الحرية والملكية وحماية الأرواح وحق دفع المظالم).
خلال بحثى لتأصيل وإسناد نظريتى، فوجئت بمصدر بالإنترنت يفيد بنحت بارتولدى لتمثال شامبليون عام 1867 (وليس 1875 كما هو مُشاع بالمصادر المعلنة؟) ولا يمكن تخيل حجم إحباطى الشخصى والقانونى لوأد اكتشاف تأصيلى التاريخى والفنى والقانونى لخطأ بارتولدى، وبالتالى انهيار فرضيات نظرية مسؤوليته الفنية التقصيرية كما سبق!
فقمت بمراجعة الصديق الفنان وعاشق مصر وخبير تمثال شامبليون، هشام جاد بباريس وأطلعته على المستجدات والتزامى بموضوعية البحث التاريخى والقانونى والفنى لتأصيل وإثبات نظريتي! فإذا به يبهرنى بعد 48 ساعة، باكتشاف ساقته لنا الأقدار وكلفه رحلة شاقة 3 ساعات لإحدى المدن الفرنسية، ليعثر ويوثق آخر نسخة أصلية متاحة من جريدة Le Journal illustre الفرنسية عدد أغسطس – سبتمبر 1867، وبصفحتها خبر أول عرض لتمثال شامبليون للنحات أوجست بارتولدى بمعرض المصريات بفرساى بباريس! وعليه سقط أساس نظريتى بمحورى الخطأ والسبب الانتقامى للمسؤولية الفنية التقصيرية للفنان، لأنه نحت التمثال تاريخيا أسبق من واقعته مع إسماعيل 1869! وبالتالى فهو عمل فنى إبداعى محض، يخضع للنقد الفنى وحرية التعبير فقط وليس المسؤولية الفنية!
وكمهتم ومقتنى للفن التشكيلى، قمت بتدقيق صورة التمثال، وإذا بى أُفاجأ مع هشام جاد بأنه نسخة أخرى من تمثال شامبليون الحالى بالكوليج دى فرانس؟ فشامبليون 1867 يضع حذاءه على رأس «تمثال أبو الهول» بوضعية شامخة شاخصة لأعلى، برأس كامل فوق عنق مرتفع. وأبو الهول تمثال غير محدد الهوية الإنسانية وإن كان بوجه بشر. وعلى ذلك فنسخة 1867 فعلا عمل فنى يخضع لجدلية حرية التعبير والإبداع، بل هناك برنامج وثائقى فرنسى أكد هذه المعلومة، بأن النسخة لشامبليون مع رأس «أبو الهول»!
إذن من هو تمثال شامبليون 1875 بساحة الكوليج دى فرانس، ولماذا استبدل بارتولدى رأس تمثال «أبو الهول» الشامخ بنسخته الأصلية المحايدة 1867، بالرأس المنحط للملك المصرى رمسيس الثاني؟ ببساطة النسخة الحالية تمت بعد 1869 تاريخ رفض الخديوى إسماعيل لتمثاله بمدخل قناة السويس! فما كان من بارتولدى إلا أن عثر على ضالة انتقامه باستبداله رمزية رأس «أبو الهول» من معنى أسطورة أوديب وأبو الهول التى استوحاها منها – كما وثق الموقع الرسمى للكوليج دى فرانس (وهو صحيح بنسخة 1867) – واستبدلها برأس بشرى لملك مصرى محدد هو رمسيس الثانى بعد واقعته مع إسماعيل 1869! تقنيات وحرفية الانتقام المُشكل للفعل المادى للخطأ، ثابتة حسما بالمقارنة المباشرة بالعين المجردة بين نسختى 1867 و1875، من حيث هوية ووضعية وحجم وكمال تفاصيل كل رأس! فالرأس الانتقامي؛ مقطوع، بدون رقبة، مسبل العينين، بوضعية رقاد مهزوم ومهان، ومُلقى على قفاه مستسلما.. يستدعى كل مشاعر الهزيمة والوجع والمهانة والإحساس بقسوة وتعمد فوقية الحذاء.
خرج شامبليون 1867 من وحى اُوديب وأبو الهول وحرية الإبداع، ليدخل فى جُرم وخطأ بارتولدى بنسخة 1875 لتوثيق انتقامه من إسماعيل برمزية رأس ملك معلوم! وطبقا للمنطق القانونى فتمثال شامبليون وأبو الهول 1876 موثق تاريخيا، وواقعة بارتولدى وإسماعيل 1869 ثابتة وموثقة تاريخيا، وتمثال شامبليون بالكوليج دى فرانس 1875 ثابت وموثق حتى الآن! إذن فالإشكالية التاريخية والقانونية والفنية وأزمة مصر والمصريين، مع النسخة الثانية لتمثال شامبليون التى تؤويها الجامعة حاليا، والمجسدة للخطأ الفنى والمادى لبارتولدى بمسخ رأس «أبو الهول» بنسخة التمثال الأصلية 1867، لرأس رمسيس الثانى المجزوزة، المدعوسة، المشوهة، المهزومة، والمستسلمة بنسخة 1875! هذه النسخة الإثبات الحى للمسؤولية الفنية التقصيرية لأوجست بارتولدى، وتكون جريدة Le Journal illustre الموثقة لشامبليون 1867 هى المثبتة لنظريتى لاكتشاف المسؤولية الفنية التقصيرية لبارتولدى عن النسخة المعدلة لشامبليون 1875.كل قارئ مصرى – بعد هذا المقال – سيكون مكتشفا بذاته لحقيقة أزمة تمثال شامبليون 1875، وأن الموضوع ليس مجرد حرية إبداع أو تعبير أو تراث فنى يخضع لمفاهيم الثقافة الفرنسية أو تاريخها التشكيلى، ولكنه متعلق بعمل فنى يثبت وصفه وتحليله ووضعية وحجم ومواصفات رأس الملك فيه، لصفة التعدى الفنى والخروج من الإبداع للخطأ، المسند بسياق تاريخى وبآثار اجتماعية وحضارية، تتعارض ليس فقط مع الكرامة والحضارة المصرية وميثاق حقوق الإنسان، بل ومبادئ الثورة الفرنسية ذاتها التى ترفض سجن رأس رمسيس الثانى تحت فنان موتور.
أشكرك أخى الفنان هشام جاد لهديتك الرائعة جريدة Le Journal illustre لإثبات نظريتى المسؤولية الفنية التقصيرية لبارتولدى، ولكن مازال الطريق طويلا محفوفا بالمخاطر والحساسية عندما نجيب على لغز لماذا اختار بارتولدى أن يدعس رمسيس الثانى بالذات، كرمزية لانتقامه من إسماعيل ومصر؟
والله المستعان!
* محامى وكاتب مصرى