ما يدفعنى إلى كتابة هذا استماعى إلى محلل فرنسى يقول إن سلوك روسيا إجراميّ منذ عدة سنوات، ومن مؤشرات هذا أنها تدخلت فى انتخابات الدول الغربية وفى شؤونها الداخلية، وأنها طبّقت سياسة إعلامية قوامها إبراز الأخبار ولو كانت تافهة التى من شأنها تعميق الاستقطاب الداخلى فى هذه الدول، وتلجأ إلى فبركة الأخبار.
لا مشكلة لى مع هذا الكلام… سوى أنه أحيانًا بسمح بإنكار مسئولية النخب الغربية عن احتقان الموقف والاستقطاب داخل دولها، ولكننى فوجئت بالمعلق نفسه يُشِيد بعد قليل بسياسات الدول الغربية العاملة على «نشر الديمقراطية» فى كل أنحاء المعمورة، والساعية إلى الدفاع عن حقوق الإنسان شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا. وقال هذا دون أن ينتبه إلى أن هذا تدخُّل فى شئون الدول الأخرى، وهو السلوك الذى ندَّد به قبلها بخمس دقائق.
قبل المضيّ قدمًا أتعامل مع اعتراض وجيه على كلامي… هل ننكر ضرورة التدخل الخارجى فى حالات الحرب الأهلية أو فى حالة دول ترتكب ضد سكانها أفعالًا تصنَّف فى خانة الإبادة أو فى خانة الجرائم ضد الإنسانية؟ يبدو واضحًا أن تدخلًا ينقذ حياة مئات الآلاف أو ملايين من الناس يكون محمودًا فى أغلب الأحوال. وسيقول قائل إن الدول التى تتدخل لا تفعلها لوجه الله، بل تحقيقًا لبعض المصالح، سـأردّ: يجب أن ننظر إلى كل حالة وخصوصيتها، هل ضرر التدخل أكثر من نفعه، هناك فارق بين مصلحة من نوع “الخوف من نزوح اللاجئين إلى الدول المجاورة وتأثير هذا على الاستقرار”، وبين مصلحة هى سرقة موارد الدولة التى يتم التدخل فيها… إلخ.
قد يكون محمودًا اشتراط موافقة مجلس الأمن على التدخل. نعم اشتراط هذا قد يسبب تأخيرًا، أو قد يسمح لدولة كبرى بمنع التدخل دون سبب غير مصالحها الضيقة، ولكننى أتصور أن اشتراط هذا ضرورى لعدم ترك الأمر للغرب الذى يتصور أنه ضمير البشرية والذى يخطئ كثيرًا فى التقدير؛ لأن مصادر معلوماته مغرضة. أعرف أن هناك دولة كبرى تعترض دائمًا على مثل هذا التدخل، ولكننى أتصور أنها ستطور موقفها.
هناك من سيتكلم عن الكيل بمكيالين، ولكن الرد على هذا هو الاعتراف به، وقطعًا معاقبة مجرم واحد أو اثنين أسوأ من معاقبة كل المجرمين، وأفضل من عدم معاقبة أى مجرم.
قطعًا، حديثى هذا لا يفى الموضوع حقه، ولكننى سأنتقل إلى تدخلات الدول الغربية فى دول مستقرة آمنة أو آمنة إلى حد ما ولكنها ليست ديمقراطية، ألاحظ أولًا أن عددًا كبيرًا من قادة وكوادر الدول الغربية عاجز عن رؤية حقيقة ساطعة… هناك أنظمة سلطوية تؤيدها أغلبية كبيرة من السكان لأسباب أو لأخرى؛ منها أنها تنجح فى رفع مستويات المعيشة وفى تحقيق التنمية، ومنها إدراك هذه الأغلبية حقيقة واضحة، مزايا الديمقراطية عديدة نذكر منها توفير الحرية وترشيد القرار السياسى والسماح بإدارة الصراعات الاجتماعية والاقتصادية بطريقة سلمية، ولكن هناك أحوالًا تتسبب الديمقراطية فى عكس هذا، قرارات سياسية غوغائية وكارثية وطغيان أغلبية مفترية وتأجيج الصراعات لتتحول إلى فتن وحرب أهلية، واستحالة أى إصلاح. لكى أكون واضحًا لا أشكّ لحظة فى كون الديمقراطية بصفة عامة أفضل من السلطوية وأفضل بكثير، ولكن الاستثناءات كثيرة.
ولكن هناك مشكلة أخرى، شاء الغرب أم أبي، له ماض استعمارى، وشاء الحقوقيون أم أبوا، هناك فى عصرنا ارتباط وثيق بين الخطاب الحقوقى والعولمة والمشروعات الإمبراطورية والإمبريالية، الخطاب الحقوقى أصبح – دون قصد غالبًا – سلاح الغرب يسمح له بعدم تطبيق قواعد النظام الدولى التى أُقرّت فى اتفاقية وستفاليا؛ والقاضية باحترام سيادة الدول، المستفيدون من العولمة يكرهون سيادة الدول، والخطاب الحقوقى يضعفها. يحتاج هذا الكلام إلى تفصيل، وللقضية جوانب أخرى شديدة التعقيد.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية