الأكاديمى والأضواء
اختفت الشمس وحلّ الليل، وأنا قابع فى شقتى بين كتبى، وعاودنى سؤال المقارنة بين مراحل مشوارى، تناوبت فيه سنوات الشهرة والنجومية، وسنوات العمل الدءوب المنفرد المنعزل البعيد عن المعمعة، دون أجر أو مكافأة سوى كفاف اليوم ورضا رؤسائى وسعادة تعلُّم أمور جديدة واكتشاف تفاصيل صغيرة ولكن تأثيرها كونى.
فى الأدب العالمى روايات تدور حول وصول شباب ريفى شديد الموهبة رفيع الخلق إلى المدينة ليكمل تعليمه وليحصل على الثروة والشهرة، وبعضهم ينجح بعد سنوات طويلة من الانضباط والزهد ومن الكد فى الظل، يسفر عنها أعمال وأبحاث عظيمة، والبعض الآخر يترك نفسه لصخب الحياة، وجمال الفتيات، وإثارة المغامرات الرومانسية، ولذائذ الشهرة، ورقيّ أفخم المطاعم، ومجده فى كتابة مقالات سريعة، ذكية، لمّاحة، بقلم رشيق ولكنها تموت مع انتهاء موسمها.
ما شاهدته فى فرنسا يشبه هذه الثنائية ولكنه يختلف عنها اختلافًا جوهريًّا، هناك فعلًا الأكاديمى الظاهر فى الإعلام ووسط النجوم، وهناك البعيدون عن الأضواء بعدًا لا يضمن جودة الإنتاج وإن لم تختفِ، ولكنه بعدُ يشعل الغيظ والغيرة ويكرس الإحساس بضياع هيبة الأكاديمى «الحقيقى»، وفى المقابل هناك جناحان فى فريق الظاهرين فى الإعلام؛ جناح لا يقبل الظهور إلا لو كان وجوده مفيدًا تستدعيه ضرورات التعليق على الأحداث، وجناح المتصورين أنهم يفهمون فى كل الأمور، بعضهم فعلًا كفء له ثقافة رفيعة وحِس مرهف، وأغلبهم من النصّابين الذين يلوّثون أى جدل ويفسدون أى حوار ويدمرون الوعى الجماعى.
الاختلاف الجوهرى ليس فى وجود ثلاثة معسكرات أو أربعة، إن قدَّرنا أن الوسط العلمى يضم من ناحيةٍ الزاهدين عن الأضواء، ومن ناحيةٍ الراغبين فيها من العاجزين فى الوصول إليها، الاختلاف الجوهرى فى أن الخطاب الغالب فى أكاديمية أيامنا هو خطاب أيديولوجى متعالٍ وتافه وليس خطابًا علميًّا معقدًا أو خطابًا علميًّا يحاول توصيل الحقيقة والمعلومات إلى العامة بلغة تفهمها، ولكى لا نكون من الظالمين، نقول أولًا إن النبوغ المذهل لكل جامعى فى تخصصه لا يمنعه من الهطل والغباء إن تكلَّم فى موضوعات عامة يفترض فيها أن المتخصص فى جزئيات مثله قادر على استيعابها، ونقول ثانيًا إن ضعف أداء الجامعيين فى تخصصٍ ما يؤثر سلبًا على أداء الجامعيين أصحاب التخصصات الأخرى. على سبيل المثال، ضعف كفاءة المتخصصين فى علم اجتماع الأديان- مثلًا- يؤثر على علماء السياسة وعلى المتخصصين فى الدراسات الثقافية، ضعف المؤرخين يُضعف خبراء السياسة، فالعلوم الإنسانية يدعم بعضها البعض إن فسدت أحوال أحدها تأثّر كل العلوم الأخرى. وللأسف العكس ليس صحيحًا.
لا أريد أن أتبحر أكثر فى اجتهاداتى لفهم مأزق الجامعات العالمية، ما أقصده هنا أن الثنائية القديمة القائمة على مواجهة بين الجامعة قلعة العلم والزهد والتنوير، مقابل الإعلام معقل الكلام السطحى والشهرة الزائفة والبريق الخادع، لم تعد مطلقة؛ فالإعلام لا يستقبل فقط المتطفلين، بل يدعو الجادّين، والإعلام لم يعد مكتفيًا بتخصيص دقيقة لقضية معقدة، بل يقوم بإعداد أفلام وثائقية، والجامعة تبدو أحيانًا وليس دائمًا وكأن العلم والإنسانيات لا يهمّانها، وكأنها تدافع عن أيديولوجيات خاصة وعن عقلية ناشطية لا يرتاح لها كبار العلماء ولا الجمهور.
بناءً على تجاربى سأقول إن الإعلام ما زال هو الباب الذى يقود إلى الشهرة لدى الجمهور- عامة ومتابعين للشأن العام على حد سواء، والإعلام والجامعة طريقان مختلفان للفت انتباه الدولة وأصحاب السلطان، الإعلام مفيد لأنه يسمح للمتفرج أو المستمع بأن يكوّن انطباعًا شخصيًّا عن المتكلم بعيدًا عن أقاويل الزملاء الحاقدين، ولكنه خطر لأن الزملاء الحاقدين قد يكونون على حق فى التحذير من كلام سُمُّه فى عسله. وبصفة عامة، لكل منظومة قواعدها ومنطقها وأدواتها المقيِّدة لحرية الأكاديمى. وفى المقال المقبل نجتهد فى تفصيل هذا.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية