أى مكان ومكان محدد
تشرفت بدعوة الإعلامى الكبير إبراهيم عيسى للقاء تليفزيونى تناولنا فيه ظاهرة صعود اليمين المتطرف فى أوروبا، واستشهدت فيه بأعمال الصحفى البريطانى ديفيد جودهارت حول الاستقطاب الجديد فى أوروبا، وهو استقطاب بين من يستطيع أن يعمل فى أى مكان؛ ويمثل هؤلاء خمس أو ربع أى شعب أوروبي، ومن لا يستطيع أو لا يحب ترك بلدياته ولا يبتعد عنها كثيرًا. والفريق الثانى يمثل فى أغلب الدول الأوروبية نصف الشعب، وهذا الفريق هو الذى ينتخب أحزاب اليمين المتطرف، ثم انتقلنا- الأستاذ إبراهيم وأنا- إلى نقاط أخرى.
أحسُّ بأن الموضوع يحتاج إلى قدر أكبر من التفصيل، كما قلت فى الحلقة، فإن أهل “أى مكان” هم أصحاب المؤهلات العليا المعترَف بها عالميًّا، خريجى الجامعات الشهيرة والمتصدرة ترتيب الجامعات العالمية، هؤلاء يتقنون عدة لغات ويستطيعون أن يعثروا على وظيفة فى أى مكان فى العالم، فهم مطلوبون؛ لأنهم يشكلون النخبة العالمية القادرة على فك شفرات العولمة وعلى التحكم فى مفاتيحها. وهم المستفيدون منها، ويستطيعون العمل فى أى مكان وفى أى بلد، فى لندن وفى القاهرة، فى نيويورك أو فى طوكيو. هو مطلوب. لا يحتاج إلى حماية دولة رفاه فدخله مرتفع، لا يحب الضرائب المفروضة عليه، ويرى فى الدول وفى سياسات الحماية وإعادة التوزيع عوائق. لا يخشى التقدم العلمى والتكنولوجي، ويرى فيه سر التقدم والرقي. هو يتصور أنه منفتح على التعددية وعلى الحضارات، فهو له معارف من جنسيات مختلفة، أوروبية أو غيرها، ويرى فى نفسه “مواطنًا عالميًّا”، هذا لا يعنى أنه لا يحب وطنه، ولكن علاقته به مختلفة عن علاقة غيره، هذا التصور- أنه منفتح على التعددية- صحيح وباطل فى آن واحد، فهو يعرف ناسًا من جنسيات مختلفة، وأصدقاؤه من قارات مختلفة، لكنهم كلهم أصحاب البروفايل نفسه وخريجو الجامعات نفسها، ولا يعرفون إلا القليل عن أهل “المكان المحدد”.
أهل “المكان المحدد” نصف أى شعب أوروبى أو أكثر، لو حصل على شهادات جامعية فهى من جامعات محلية لا يُعترف بها دوليًّا، وهو لا يتقن إلا لغة واحدة هى اللغة الوطنية- هذا على فرض أنه يتقنها، وعندما يعرف نفسه يميل إلى ذكر جنسيته والمدينة أو القرية التى نشأ فيها، ولا يتكلم كثيرًا عن الجامعة التى تخرَّج فيها، وهو لا يستطيع العمل خارج وطنه إلا فى مِهن ووظائف دنيا، وعامة لا يبتعد عن مسقط رأسه كثيرًا إلا مضطرًّا، ويحتاج بشدة إلى دولة الرفاه وإلى وظيفة ثابتة وإلى استقرار الأوضاع، ويخاف أن يتعامل مع ناس ليسوا من بنى جنسه، هو لا يكرههم بالضرورة، ولكنه يكره التعديلات التى يتسببون فيها، فى الشارع لا يسمع موسيقى وأغانى يعرفها، وتختفى المطاعم المتخصصة فى الأكل الوطنى ويحلُّ محلها مطاعم أجنبية، ويسمع فى الشارع لغات لا يعرفها، وفى العمل الوظيفة والدخل غير مضمونين، فهناك مِهن تختفي، ومصانع تغلق، وفى التليفزيون يسمع أن اختفاء وظيفته تقدم كبير للبشرية، ومُر بسيط ومحتمل ليعمَّ الخير خلال سنوات، ويسمع من يتهمه بالعجز عن التطور وبالخيبة، وكثيرًا ما يضطر إلى ترك موطنه وسكنه ليذهب إلى حى أكثر فقرًا.
هذا الكلام قد يوحى بأن أهل المكان المحدد كلهم من الفقراء أو من البرجوازية الصغيرة، وفى الواقع أهل المكان المحدد قد يكونون كذلك، وقد يكونون من الطبقات الوسطى المستورة أو الميسورة نسبيًّا، لكن واقع العولمة يفرض عليهم ضغوطًا متنوعة، من نوع “لا تطالب بزيادة راتبك، لو فعلتها سنغلق المصنع وننقله إلى بلد أرخص” أو من غيره.
ما يهمُّنى هنا أن كل رؤساء الأحزاب وكوادرها الرئيسة من الفريق الأول لا يتعاطفون ولا يفهمون الفريق الثاني، الفريق الثانى بحث عمن يمثله واختار اليمين المتطرف.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية