يستحوذ الهنود على مناصب الرؤساء التنفيذيين فى 60 شركة بقائمة Fortune 500 التى تضم أكبر 500 شركة فى الولايات المتحدة، وهم قادة 25 شركة من شركات مؤشر S&P 500 لأكبر 500 شركة مدرجة فى البورصة الأمريكية، ويديرون %25 من الشركات الناشئة فى وادى السيليكون.
عرف الناس الهيمنة الهندية على المناصب القيادية عندما تعرفوا إلى رؤساء شركات أمريكية عملاقة لا تغيب عنها شمس المليارات، من مايكروسوفت إلى جوجل إلى IBM وغيرهم من العمالقة حتى خارج مجال التكنولوجيا فى سيتى بنك وستاربكس، وقد اقترن ذلك بحقيقة أن الجنسية الهندية هى أكثر جنسية أجنبية تهيمن على قيادة الشركات الأمريكية الكبرى، بل وتقلص حاليا الفارق بينها وبين الجنسية الأمريكية ذاتها!
هذا التكرار يعنى بالتأكيد أنه لا مجال للصدفة، بل إن وراء الأمر استراتيجية ما تم اتباعها فى الهند بغرض الوصول إلى هذه المكانة التى تدعو إلى الفخر الوطنى، لا سيما أن هؤلاء الرؤساء التنفيذيين أغلبهم مولود فى الهند وتلقوا تعليمهم الرئيسى هناك، وليسوا جيلا ثالثا أو ثانيا من المهاجرين الهنود.
البشر ثروة
تستوعب الهند أكثر من 1.3 مليار نسمة وهى ثانى أكبر دولة فى العالم من حيث تعداد السكان بعد الصين، لكنها مع ذلك لم تنظر لهذا العدد باعتباره عبئا قدر ما تحركت سريعا للاستفادة من حقيقة أن هؤلاء «أصول» على هيئة بشر يمكن الاستناد إليهم فى تحقيق الثروة وتنمية الاقتصاد.
وفقا لبيانات الأمم المتحدة لعام 2019، فإن عدد السكان فى سن العمل فى الهند سيتفوق على الصين فى عام 2028، إذ سيصل إلى مستوى %65 من إجمالى السكان بحلول عام 2036 وسيظل عند هذا المستوى حتى عام 2047، وقد نظر الهنود إلى هذا باعتباره ثروة حقيقية.
«فقط عندما يتم تدريبهم ومنحهم فرصا متكافئة -بغض النظر عن الجنس والطبقة- سيكونون قادرين على المساهمة فى نمو الناتج المحلى للبلاد»، تقول نيرمالا سيترامان وزيرة المالية الهندية.
التعليم لمكافحة الفقر
مستندة إلى الديمقراطية التى تحكم نظامها السياسى بعد التخلص من الاحتلال البريطانى، ركزت الهند على التعليم بشكل أساسى باعتباره الطريق الأقصر لتحرير ملايين البشر من ويلات الفقر، وكانت المعاهد الهندية للتكنولوجيا رأس الحربة فى النظام التعليمى الذى تم تدشينه منذ عام 1951.
وفى بلد كان أكثر من نصف سكانه فقراء (%55) حتى عام 2005، عملت البلاد بالموازاة على تمكين الطبقة الوسطى من خلال تكثيف البنية التحتية التعليمية والمهنية إلى جانب تبنى سياسات حكومية مساعدة.
من 20 جامعة وحوالى 200 كلية فى عام 1948 أصبحت الهند تحتكم حاليا على 900 جامعة و40 ألف كلية تضم أكثر من 35 مليون طالب، وفقا لما يؤكده فيراندر سينغ تشوهان الرئيس التنفيذى للمجلس الوطنى للتقييم والاعتماد فى الهند.
لاحقا، أنتج نظام التعليم الهندى ثانى أكبر عدد من الرؤساء التنفيذيين على مستوى العالم، فضلا عن آلاف المواهب التقنية، وجعل من الهند أحد المصادر الأجنبية الرائدة لكبار الخبراء فى قطاع التكنولوجيا الأمريكى لأكثر من عقدين.
وفى عام 2022، تراجع عدد الفقراء فى الهند إلى %16 فقط، ويقدر مؤشر الفقر لعام 2022 الصادر فى أكتوبر الماضى عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائى ومبادرة أكسفورد للفقر والتنمية البشرية، أن أكثر من 400 مليون هندى تحرروا من الفقر على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية. وفى الفترة من 2011 إلى 2015 فقط تم انتشال أكثر من 90 مليون شخص من براثن الفقر المدقع.
ومع ذلك، لا يزال واحدًا من كل خمسة فقراء فى العالم يعيش فى الهند، إذ تحتضن البلد 229 مليون فقير وهو رقم مهول يعنى أن هناك الكثير أمام الهند لتحقيقه فى هذا الصدد.
ومع ذلك، واصلت الهند الاستثمار فى نظامها التعليمى وتطويره، متجنبة الإفراط فى التركيز على المعرفة على حساب تنمية المهارات ؛ والاعتراف بحقيقة أن التعليم بدون مهارات يؤدى إلى البطالة ولكن المهارات بدون تعليم تؤدى إلى إنتاجية أقل.
وفقا لصحية هندوستان تايمز، أعلنت الهند فى 2020 سياسة تعليم جديدة بموجبها سيبدأ الطلاب من الصف السادس فأعلى التعرف على علوم البيانات والترميز «الأكواد»، رغبة فى زيادة تعرض الطلاب للتكنولوجيا فى سن مبكرة لتمكينهم من قيادة الهند إلى عالم جديد من الابتكار والإبداع.
نقاط القوة فى الهنود
هناك بعض الأسباب البسيطة التى تفسر أيضا سبب نجاح الهنود فى أمريكا، إذ يميل الهنود الحاصلون على تعليم جامعى إلى التحدث باللغة الإنجليزية بشكل جيد، وهم كذلك يتأقلمون بشكل فعال مع ثقافة العمل الأمريكية.
كذلك، تعتبر الهند أن ديمقراطيتها تمنحها ميزة كبيرة إذ ينشأ الهنود فى بيئة من القيم الجيدة التى تتشابه فى كثير من جوانبها مع القيم الأمريكية، الأمر الذى يمكن الهنود من تطوير صفات جديدة تمنحهم القدرة على الارتياح فى بيئات العمل الأمريكية.
وتقول بيوش جوبتا الرئيسة التنفيذية لمجموعة DBS لقناة سى إن بى سى، إن العديد من الهنود الناجحين ينتمون إلى خلفية من الطبقة الوسطى.
فخر وطنى.. ومأزق كبير!
ربما كسبت الهند كثيرًا من تصدير الرؤساء التنفيذيون للشركات متعددة الجنسيات الكبرى، لكنها فى المقابل تخسر أكثر بكثير بالنظر إلى أن ما يحدث هو استنزاف لأفضل مواهبها.
يسيطر الهنود على إدارة جوجل ومايكروسوفت لكنهم مع ذلك لا يملكون مثيلًا لهما، وهو ما نجحت فيه الصين مثلا إذ لا تنال حضورًا كبيرًا فى رئاسة الشركات الأمريكية، لكنها تمتلك بالفعل شركات تكنولوجيا عملاقة وشديدة التنافسية.
وتشير مجلة فورين بوليسى إلى أن ضعف الرواتب فى الهند يعد سببًا رئيسيًّا لهجرة العقول الهندية، وهو أيضًا أمر غير موجود فى الصين التى تبلغ أجور كبار المديرين التنفيذيين بها ضعفى الأجور فى الهند، وفقًا لمسح أجرته شركة تاورز واتسون الاستشارية.
غياب تكافؤ الفرص يعد أيضًا من بين أسباب سفر الهنود إلى الولايات المتحدة، إذ يبدو أن الشركات فى الهند ليس لديها رغبة كبيرة فى الاستفادة من العقول المهاجرة، ويفضلون بدلا من ذلك إسناد مناصب الرؤساء التنفيذيين لأفراد من العائلات المالكة الأصلية للشركة حتى وإن لم يمتلكوا الاحتكاك الدولى المطلوب. بل أنه حتى أكثر الشركات الهندية متعددة الجنسيات تؤمن بضرورة التمسك بأحد أفراد الأسرة قائدا للشركة بدلا من استقطاب أحد «نجوم الخارج». ويعود هذا أيضا إلى الأهمية الكبرى التى تشكلها العلاقات الشخصية مع كبار المسؤولين الحكوميين فى الهند