يعتبر الشعب والأرض ركيزة مكونات الدولة، ومنهما تولد الحكومة والسيادة والاستمرارية السياسية. وحق الشعب فى الوجود الآمن هو قوته ودافعه فى اختياره لحكومته، وعندما قال سعد زغلول «الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة» كانت انعكاسا لمفهوم حق الشعب فى هذا الوجود، وقوته امام الحكومة. غير أن هذه «القوة لا تتأتى إلا عن طريق الحق الذى يحميه القانون» كما أوضح غاندى، وهو ما يجعل القانون هو الإطار الحاكم للعلاقة بين الشعب والحكومة فى إدارتها الأرض لصالح الشعب، أو قيادة الشعب داخل الإقليم.
هذا المفهوم يجعل الشعب يتعامل كونه شريكا للحكومة فى الانتفاع بالأرض، وينظر لكونها أمينة على حفظ وجوده وكرامته وتنميته، بما اعتبره ذلك البعض تفويضا لـ«شرعية السلطة» للشريك التنفيذى فى الحكم. وبالتالى يمكن تصور أن معادلة القانون وشرعية السلطة هى روح هذه المشاركة، وأى خلل فيها قد يودى لظهور (الشريك المخالف)! سواء الشعب لحفظ حقه – أو الحاكم لحفظ دولة مؤتمن عليها فى زمن محدد.
الكثير من «شغب الشعب» مرده خلل الحاكم فى حفظ وجوده، وكرامته، وتنميته! وتاريخيا عانى المصرى منذ المصريين القدماء والأتراك والمماليك والفرنسيس والإنجليز من هذا الخلل، وبرع الحاكم وقتها فى تدجين القانون ليكون أداة تحكم وليس حكما، وتأصل الإحساس بـ«غصب السلطة» من «شرعية» لم يعرفها المصريون لعهود طويلة. وأصبح التمرد والمعارضة والمقاومة ومخالفة القانون، من عناوين الوطنية المرموقة، وفى تقديرى توارثت هذا الإحساس جينات المصريين وطورته على مر السنين، حتى إن أبداعوا لاحقا فى خلق شرعية سلطة بوعى، تنقضها جيناتهم بلا وعي!
ولكن مصر القديمة ليست هى مصر 2022، ولا العالم قديما كما هو مع انفجارات القرن 21! ومع ذلك ما زالت جينات الإرث الفوضوى تغالب واقع المصريين فى زمن يحتم الاتفاق لا الفراق، والمشاركة لا المخالفة!
عمق تاريخ العلاقة الدرامية بين الشعب والحاكم، جعلت المصريين مثل «بجماليون» النحات الرافض لمساوئ نساء عصره، فنحت امرأة من عاج أودعها حبه المثالى، لتكافئه أفروديت بإحياء التمثال ليتزوجها فى الأسطورة، ولكنه يحطمها فى مسرحية توفيق الحكيم الخالدة بذات الاسم، بعد عودتها كتمثال لا يحتمل عدم كماله! كرمز لسقوط الخالق فى حب مخلوقه، ثم تدميره لمخالفته توقعاته.
لعهود قريبة كان الشعب كشريك مخالف واعٍ، يعلن مخالفته فى جلسات مجلس الشعب، قصائد، حرية رأى، أفلام، كتب، موسيقى. كان الوعى الجمعى من أواخر الخمسينيات وحتى أوائل التسعينيات يتسم بموضوعية وحجة وعمق وغزارة فى المحصول الثقافى، والسياسى، والدينى، والتعليمى، كانت مصر تتنفس صحفا وكتبا وتلفزيونا وراديو وكاسيت، والعديد كانت لديه رؤى ومشاريع وأفكار مستقبلية، فى عهود لاحقت مصر بها آثار نكسة 67، تداعيات الانفتاح الاستهلاكى، مصالح الخصخصة، والتغول الإخوانى، حتى الوصول لمرحلة 2011، ومعاناة ثورة 6/30 مع مشروع تجريف الثقافة المصرية، ونحر الوعى الجمعى، وسطوع السوشيال ميديا كمسيخ دجال العصر الحديث!
أزمة استمرار جينات الشريك المخالف صاحبت المصرى، بدون محصول حقيقى أو مُسند أو موضوعية تعى الابعاد الحقيقية والواقعية لمصر 2022، وما تواجهه وما يحاط بها!
الأزمة الحقيقية هى معاصرة تحديات البقاء.. للمشاكل، للأزمات، للتنمية، لأكل العيش، للأمن، للضغوط الاقتصادية، للتحالفات الدولية، كلهم على التوازى مع مشروع تجديد الربيع العربى ومطامع الإخوان وأجندات الحرس القديم. تعاصر وتضافر كل ذلك خلق تبرير كاذب لـ«مشروعية معارضة»، جعلت شغب الشعب متاحا يوميا على السوشيال ميديا داخل وخارج مصر! ليلفظ (تشهير وفُحش وتحريض وهدم) وليس «معارضة مشروعة» مسلحة برؤية ومشروع مستقبلى وحجج مسندة أو حلول مقدمة.
أصبحت منصات التواصل الاجتماعى منابر مفتوحة لمخالفي القانون ومشبوهي الرأى ومشوهى الفكر، ورغم حقيقة صعوبة المرحلة والضغوط الطاحنة وآليات اقتصاد الحرب، ومكافحة المصريين للتجاوز، تسعى المعارضة المشبوهة لمعول بجماليون لضرب مصر الجديدة، بزعم الأمة فوق الحكومة، بدون حق فى قوتهم إلا بوق مسيخهم الدجال.
هناك فرق كبير جدا بين الشريك المخالف عن حق كشيمة المصرى الواعى، وبين نموذج المبتز عاطفيا والشريك المُسمم! الذى يركز على الشكوى، السلبية، التمسك برأيه، تشتت المطالب، التشكيك المستمر، غياب الحلول، الانسحاب من التزاماته، العدوانية الشديدة، النرجسية الشخصية. تفتقد مصر شخصية الشريك المخالف الموضوعى الرامى لمصلحة الدولة الحقيقية، وليس مصلحته الشخصية، أو مصالح فئته، أو قطيعه، أو جماعته. مناشدة الدعم والفهم حقيق أن يكون بالتبادل، كحتمية مطلوبة بين الشعب والحكومة فى زمن حرج، وتحتاج معه الأخيرة للموازنة بين دقة الواقع وبين حتمية التخطيط لاستعادة الوعى الموضوعى للشعب بصحوة أدواته الحريصة عليها. ومع وعى جمعى متهرئ من استراتيجيات محترفة، يتلقف العامة سموم قطيع الموتورين بنهم الجهل، وسهولة التوصيل، واستغلال تعاصر محاور الأزمة الحقيقية، وضبابية الحقيقة بين شغب شعب وحكومة مطحونة للبقاء وحتمية الاستمرار. لا شك أن مناشدات الموتورين من خارج مصر هى تفعيل خبيث للمثل العامى (اِلشِّرِيكِ الْمِخَالِفْ اِخْسَرْ وِخَسَّرُهْ) أى اسْعَ فى خسارته (الحاكم) وإن كانت الخسارة خسارتك أيضًا (الشعب)! واقعيا فالخاسر الوحيد الحقيقى هو دولة مصر بكل مكوناتها وأجيالها القادمة، لإعادة اختراع العجلة بدل إصلاحها!
أمانة الحاكم فى حفظ وجود وكرامة وتنمية الشعب، لا تنسب لشخص واحد أو تنتقص منه، ولكن لدوائر الحكم متكاملة، كدوامة فى بحر المعادلة، سباحيها أفراد الشعب نفسه بوزاراته، وأحزابه، وجمعاته، وتكتلاته، وموظفيه، وإعلاميه إلخ. الشعب ليس سكان القاهرة والعواصم الكبيرة أو قوم حافى، أو موتورى أمريكا وكندا وتركيا إلخ! الشعب كشريك فى الحكم هو كل مصرى يدب على أرض مصر ويستفيد من إنجازات 9 سنوات، ويدعونه إفكا لإعادة تمثيل بجماليون ويقبضون هم الأجر!
مصرنا تحتاج كسر معول بجماليون بنور المصارحة، فتح مخازن الغلال ليوسف، تجديد عهد أمان الكلمة والمشاركة. فمصرنا تستحق البقاء وللمصريين النماء وعلينا السلام.
* محامى وكاتب مصرى