هل الصحفي.. «ترزي»؟

هل الصحفي.. «ترزي»؟
حازم شريف

حازم شريف

12:00 م, الأحد, 26 أكتوبر 03

عندما أعلن أحد مديري الاستثمار قبل عدة سنوات عن تأسيسه وإدارته لصندوق استثمار جديد إسلامي.. انتابتني دهشة. لا لشيء سوي لمعرفتي الشخصية المسبقة بالرجل، واعتقادي – بل وربما يقيني – أنه بعيد كل البعد عن هذه الدروشة الاقتصادية، التي يمارسها البعض بحسن نية في بعض الأحوال، وبسوء نية في كثيرها، ولنا في الريان وغيره مثل وعظة.
 
وحين نقلت إليه استغرابي عبر مكالمة هاتفية قصيرة، داهمني بعبارات تلغرافية موجزة: مدير الاستثمار ما هو إلا «ترزي»، وظيفته تفصيل محفظة الاستثمار المناسبة حسب طلبات «الزبون»!
 
حتي لو تناقضت هذه الطلبات مع ثقافة ومبادئ ومعتقدات مدير الاستثمار؟.. جاءتني اجابته رنانة: مدير الاستثمار «ترزي».. «ترزي».. «ترزييييييه».. وما زالت كلماته ترن وتزن في أذني حتي هذه اللحظة.
 
وينبغي أن اعترف أن دهشتي قد أخذت في الاضمحلال تدريجيا، وأنا أقرأ من حين لآخر أخبارا وأنباء عن انشاء بنوك محلية وأجنبية لمنتجات مالية إسلامية جديدة وآخرها- وهو سبب زوال الدهشة الأعظم – قيام بنك اتش اس بي سي البريطاني مؤخرا، بتدشين صكوك استثمار إسلامية، تستهدف أسواق دول الخليج.
 
وهكذا اقتنعت أن مديري الاستثمار ومبدعي ومروجي المنتجات والأدوات المالية والادخارية، يمكن أن يكونوا «ترزية»، فلا أحدا منهم علي الأقل ادعي أن مهمته إصلاح الكون، أو تغيير المجتمع، أو غربلة الثقافة السائدة أو غيرها من المهام، التي يحلو للمفكرين والمبدعين أن ينسبوها لأنفسهم دائما، دون أن يقوموا بها في الواقع غالبا، وذلك إما لأسباب إرادية أو غير إرادية، خاصة في ظل مجتمعات لديها من رصيد قمع كل جديد ما يفل الحديد.
 
ولكن إذا كان هذا شأن المحترفين في الأسواق، والعاملين في المهن ذات الطابع التقني، فهل يجوز أن يمارس الصحفي مهنته بمنطق «الترزي»؟
 
هل يصح أن يتحول من أقصي اليسار إلي أقصي اليمين، أو أن يلقي بنفسه في غياهب الأصولية المحافظة تارة، وفي رحاب التحرر تارة، بحجة أنه «ترزي» أو «صنايعي»، تتلخص مهمته في تفصيل المطبوعة علي مقاس الزبون؟
 
هل يحق له أن يصنف موقفه هذا في خانة المواقف العملية «البرجماتية»-ناهيك أن بعضهم لا يتورع عن وصف نفسه بالمبدئي- أم يحق لخصومه أن ينعتوه بالانتهازية؟
 
وعلي غير ما تدعي الأغلبية عن نفسها، لم أنسب ولو للحظة لنفسي صفة المثالية، كما لم اسقطها يوما علي غيري، كما أنني – وعلي عكس ما تدعي الأغلبية أيضا رغم ممارستها الفاضحة في الاتجاه المضاد- لا أحمل أي ادانة للمنطق الميكافيللي.. الغاية تبرر الوسيلة، بشرط أن تنطلق ممارسات الإنسان العملية «البرجماتية»، من مواقف مبدئية محددة وواضحة.
 
وبالرغم من كل ذلك – أو ربما بسببه – ليس بمقدوري أن استسيغ مفهوم أو منطق الصحفي أو الكاتب أو المفكر «الترزي».
 
تستطيع أن تناور في ظل الظروف الصعبة، وأن توائم، أو أن تحني رأسك قليلا أمام العاصفة – لا أن تنبطح أو تنجرف معها – ولكن.. في ظل كل هذا الصخب والهرج والمرج، ينبغي أن تراجع نفسك دائما، وأن تلقي عليها السؤال الصعب، عن مقدار زاوية الانحراف عن مواقفك الأصلية.
 
وفي جميع الأحوال، من الصعب أن تنجح، دون أن تكون نفسك، حتي لو كانت نفسك هذه بالغة القبح.
 
عرفت أشخاصا ناجحين بسبب اتساق مواقفهم العملية مع مرجعيتهم المبدئية، وشاهدت غيرهم ينجحون بسبب مزايدة ممارساتهم الانتهازية علي الانتهازية ذاتها التي يؤمنون بها في قرارة أعماقهم. ولكني لم أصادف صحفيا متصنعا أو صحفيا «ترزي» ناجحا، اللهم إلا إذا كان هذا النجاح محصورا في نطاق جوقة مستفيدة، تجري وراء مصالحها، بصرف النظر عن طلبات ورغبات الزبون، وهؤلاء بالغو الاتساق مع النفس، علي غير ما يعتقد الكثيرون من السذج المبدئيين!