خواطر مواطن مهموم (158) حول العلامة هنرى لورانس

خواطر مواطن مهموم (158) حول العلامة هنرى لورانس
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

10:24 ص, الأحد, 2 أكتوبر 22

لمن لا يعلم الدكتور هنرى لورانس، أستاذ التاريخ العربى المعاصر فى المجمع الفرنسى، Collège de France، ومن يكون صاحب كرسى أستاذية فى هذا الصرح العريق يُعتبر أحسن جامعى فى مجاله فى فرنسا، وأحيانًا فى أوروبا وفى العالم.

يتم اختياره بالانتخاب على مراحل؛ الأولى تقديم الطامعين فى المنصب الشريف أوراق ترشيحهم، والثانية تصويت أساتذة المجمع من كل التخصصات لاختيار أحد المرشحين، والثالثة أخذ رأى عتاولة التخصص والمعاهد المعنية، والرابعة يرشحه الوزير لرئيس الجمهورية، وبعد تعيينه لا يُعزل ولا يخرج إلى المعاش إلا عندما يقرر هو هذا.

وبين الخطوتين الأولى والثانية يقابل جميع المرشحين كل أستاذ من أساتذة المجمع على انفراد ليتحاورا ليكوِّن كل أستاذ من أساتذة المعهد العريق رأيًا فى كل مرشح.

ثمة خطر يهدد عمل من ينال شرف الأستاذية فى المجمع؛ وهو كونه بلغ قمة الهرم، لا صعود بعد ذلك سوى الحصول على جائزة نوبل إنْ وُجدت، ولا رقيب عليه سوى الله وضميره هو، والمطلوب منه ليس كثيرًا، عدد محدود من المحاضرات السنوية، ولذلك تجد عددًا منهم أصيب بالعقم بعد حصوله على كرسى الأستاذية، ولكن أغلب الأساتذة يحافظون على مستواهم ويواصلون عطاءهم ولا يكتفون بأداء المطلوب منهم.

الدكتور لورانس لا ينتمى إلى أى من الفريقين؛ فهو ينتمى إلى فصيل نادر، فصيل القلِقين الذين يتحررون من القلق بعد بلوغهم القمة، ليطلقوا العنان لإبداعهم وليوسعوا من دوائر اهتماماتهم، والذين لا يكتفون باحترام قواعد البحث وأصوله، بل يسهمون فى تطويرها ويعرفون متى يتقيدون بها ومتى وكيف يتجاوزونها إن صارت عائقًا.

أعتبر علاقتنا، والتى بدأت فى النصف الأول من ثمانينات القرن الماضى، من نعم الله عليّ، وبفضل الله فهمت قبل غيرى أن مستقبلًا عظيمًا ينتظره، وساعدنى على ذلك حبى للتاريخ؛ وهى خصلة غير منتشرة فى أوساط علماء السياسة، الذين يستاءون من براعة المؤرخين فى تفنيد نظرياتهم، ورأيته يصارع عيوبه ويتغلب عليها، أو على أغلبها، بل نجح فى تحويل بعضها إلى سلاح فكرى فتاك.

على سبيل المثال كان الأستاذ شديد الصرامة فى تحديد الوقائع- تحديد ما حدث فعلًا- وتسلسل الأحداث، وعرَّضه هذا لتهمةٍ ألقاها بعض الزملاء؛ بعضهم من المفكرين، وبعضهم يتصور نفسه كذلك، فقالوا إنه ينتمى إلى مدرسة وضعية ضيقة الأفق، وأن عمله عمل “محقِّق” وليس عمل “مفكر”، ولم ينتبه أغلبهم إلى أمرين.. أحدهما علمى، أن أى مفكر يحتاج إلى قاعدة صلبة من الوقائع يبنى عليها، وأن هذه القاعدة لم تكن موجودة فى الثمانينات والتسعينات من القرن الماضى فى دراسات الغربيين عن منطقتنا، ولن أقول إنها موجودة الآن، وهى غير موجودة عندنا لأسباب أخرى، منها مشكلاتنا فى التعامل مع الوثائق الإسرائيلية، وثانيهما سياسى وهو أن الدكتور لورانس خدم القضية الفلسطينية خدمة جليلة بعمله الدءوب على استخلاص الوقائع، فلم يكن من الممكن لكارهى العرب أو لأنصار إسرائيل تجاهل كلامه المبنيّ فعلًا على تحقيق صارم لا يتجاهل أقوال أى طرف. قال لى متعاطفون مع إسرائيل “لا نحبه ولكنه قطعًا علّامة يفهم فى الموضوع الذى يتكلم فيه”، وكانت أبحاثه فى هذه القضية إدانة دون شيطنة.

وأثبتت أعمال الدكتور لورانس فى السنوات الأخيرة أن تهمة “الوضعية” لا أساس لها من الصحة؛ فهو قادر على التعامل مع فلسفة التاريخ والتاريخ الفلسفى والمساهمة فى إثرائهما، ويتميز عن نظرائه بانفتاحه على الإنتاج الثقافى لكل الحضارات، وبإلمامه بالتطور التاريخى لكل مناطق المعمورة. هو طبعًا يعتمد على عقود من الإنتاج الأكاديمى الغربى عالى المستوى، وعلى الحوار مع فطاحل المجمع الفرنسى، صحيح أن معرفته لمناطق- أوروبا والشرق الأوسط- أعمق من معرفته لمناطق أخرى، لكنه قادر على الخوض فى تاريخ أى منها.

يتبع

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية