أكد خبراء ومتخصصون أن ضعف القوة الشرائية يعد السبب الأول فى انخفاض نسبة انتشار التأمين فى المجتمع المصرى رغم محاولة البعض تبرير تدنى وعى العملاء بأسباب دينية، مشيرين إلى أنه بعدما كان يُثار من أن الوازع الدينى هو أبرز أسباب ضعف الوعى التأميني؛ إلا أن هذا الافتراض لم تثبت صحته.
وتابعوا: «صحيح أن الآراء الدينية كانت عاملًا مؤثرًا فى ابتعاد فئات عديدة عن التأمين قديمًا، إلا أن هذا تزامن مع تدنى المستوى الاقتصادى لبعض الطبقات، التى اتخذت من تلك الفتاوى ذريعة للتشبث بالوازع الروحى الذى يربطهم بـ«التوكل» و«قِصر الأمل» وغيرها من المفاهيم.
وقالوا إن المجامع الفقهية سارت حديثًا نحو تسمية الأمور بمسمياتها، وتفصيل ما لم يكن واضحًا فى آراء السابقين، مما كان له أثر بيّن فى تغيير المنهج العلمى والعملى لدراسة المسألة، وإظهار ما خفى منها؛ الأمر الذى خلص إلى إباحة المعاملات التأمينية.
وأوضحوا أن الوسطاء يتحملون العبء الأكبر فى الأزمة، مطالبين بدراسة احتياجات السوق واستهداف شرائح جديدة.
وشددوا على تدنى الثقافة التأمينية لدى أصحاب الدخول المنخفضة، مشيرين إلى أن القطاع يحتاج إلى الاهتمام بخدمات ما بعد البيع.
والتساؤل هو : هل كانت للآراء الفقهية آثار على اتجاه الناس نحو التأمين؟ أم أن النفور منه راجع إلى ضعف الوعى التأمينى لدى بعض الطبقات؟ وما مدى علاقة ذلك بالحالة الاقتصادية العامة للدولة؟
«المال» تواصلت مع عدد من الخبراء والمتخصصين لاستطلاع آرائهم بشأن تلك التساؤلات.
وقال خالد سعيد رئيس قطاع تطوير الأعمال والإنتاج والفروع فى شركة «طوكيو مارين جينرال تكافل» إن سبب ضعف انتشار التأمين بمصر بعيد تمامًا عن تأثير الدعاية الدينية المعارضة أو المبيحة، مشيرا إلى فتوى الدكتور نصر فريد واصل؛ مفتى الديار المصرية الأسبق، التى أجازته، حيث يرى أنه رغم بيانات دار الإفتاء المصرية باندراجه – بشتى أنواعه تحت ضرورات العصر، إلا أن نسبة مساهمة القطاع فى الناتج المحلى لم تتعد الـ%1 .
وأكد أنه رغم وجود التأمين التكافلى بمصر منذ عِقدين من الزمن، إلا أنه ما يزال الوعى «منعدما» لدى شرائح كبيرة من المواطنين، وذلك بسبب ضعف الوسائل الدعائية لدى الشركات باستخدامهم أساليب «أكل عليها الزمان وشرب»، بينما يُغفلون نطاقات قد يصلون إليها عن طريق وسائل التواصل الاجتماعى والتحام أرباب المهنة مع المواطنين بالتعريف بأنواعه والإرشاد لأهميته.
وأبدى استياءه مما أسماه «الممارسات الساخرة من أرباب المهنة»، والتى تبنتها بعض الأعمال الفنية قديمًا، مما هوّن المجال وذويه فى عيون الناس، وضرب لذلك مثالًا بفيلم «عودة أخطر رجل فى العالم» حينما ظهر البطل (مفتاح) بصورة الموظف الحريص على إقناع المهراجا الهندى بضرورة قيامه بالتأمين على جوهرته الثمينة بوثيقة تابعة للشركة التى يعمل بها، وعدّ ذلك تقليلًا من قيمة القطاع بأسره.
فى حين أن الأعمال الفنية بالغرب -والكلام ما زال لسعيد- تُشيد بشكل مُحكم بدور التأمين الإيجابى فى حياة الناس عند حلول الكوارث، حيث جاء بفيلم OLYMPUS HAS FAIIEN على لسان البطل (مايك باننج) عند تهدم المنزل جراء قذيفة: «لا تقلق، إن التأمين سيشمله»، فربما كانت تلك رسالة خفية، ولكنها إيجابية.
أما الإعلام المرئى – حسب خالد سعيد-، فإن التعويل عليه لم يؤتِ ثماره بعد تجارب مريرة، بسبب ضعف المحاورين ببرامج «التوك شو» النابع من عدم إيمانهم بأهمية الوعى التأمينى من ناحية، ومن جهة أخرى؛ بإهمال إعداد الحلقات جيدًا عند استضافتهم للخبراء، مما حدا بكثير من أهل المجال إلى رفض الظهور تليفزيونيًا.
ومن وجهة نظر «سعيد» فإن شركات الوساطة التأمينية تتحمل العبء الأكبر فى رفع مستوى الوعى عند مختلف الطبقات، بالتسويق المبتكر واستخدام وسائل الإعلام الأوسع انتشارًا، خصوصًا وأن القوانين الجديدة قد كفّت ووفّت حسم المسألة من الناحية التشريعية، فما بقى راجع -لا محالة- إلى التفنن فى عرض الأمر على المواطن بسهولة فيما يهمه، وجذب أعلى نسبة مستفيدين، لا سيما بعد طرح التأمين متناهى الصغر، حيث توسعت قاعدة المستهدفَين ممن لم يكونوا أطرافًا بالمعادلة من قبل.
وعزّز ، فى سبيل انتشال المجال من الركود المحيط به، أن يعمل المديرون على «إعادة التدوير» للموظفين ونشر الثقافة التأمينية لدى العاملين، من خلال عقد الدورات التدريبية وتهيئتهم فكريًا وإداريًا حتى يتمكنوا من الارتقاء بما يمارسونه من أعمال فى جميع القطاعات.
من جهته، أكد سمير محمود ،رئيس قطاع التدريب بشركة «قناة السويس للتأمين» ومدير معهد التأمين بمصر سابقا، أن هناك تحسنًا لا يُنكر فى السوق وإن كان غير مُرضٍ، مما ساعد على الوصول إلى قطاعات جديدة من العملاء، وبينما لم تقصّر التشريعات القانونية فى تنظيم الأمور، إلا أن نسبة المُؤَمّنين تسير بخطى وئيدة للأمام.
وقال محمود -مقترحًا- إن فتح الشهية التأمينية يكون بإجراء دراسات إكتوارية لبحث احتياجات السوق واستهداف شرائح جديدة من المجتمع، مع إنشاء مُجمّعات تأخذ فى حسبانها غزو المجالات المفتقرة إلى الحماية مما يحمله المستقبل من مفاجآت غير سارة.
من جانبه، أشار محمد الغطريفى، وسيط تأمين، إلى أن الوعى العام قد تجاوز منظور تحريم التأمين منذ بداية الألفية، ذلك لأن الفتاوى القديمة بالقرن السالف لم تدرس القضية بشمولية تتوصل إلى دقائقه وأهدافه، وإنما ما وصل للمفتين وقتها هى قشور لم تغنِ عن استدراك مآربه الأخرى، وممن توصل إلى تلك النتائج البعيدة فى فتاواه الحديثة الشيخ الغزالى، وإن بدا متحفظًا على قضية التأمين على الحياة، ولكنه كان رأيًا فى ذلك الوقت سابقًا لعصره فى أواخر التسعينات، وفضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي؛ شيخ الأزهر السابق، الذى اعتبره من التكافل الاجتماعى المحمود، شريطة أن يكون بطريقة عادلة تسعى لمساعدة المحتاجين وذوى العاهات.
ويُرجع «الغطريفى» تدنى الوعى التأمينى لدى شرائح كبيرة من المواطنين إلى الموروث الشعبى «أحيينى النهار دا وموّتنى بكرة»، الداعى إلى العشوائية والتواكل وعدم التخطيط، ومن المفارقات العجيبة أن تلك الثقافة تتفشى بين أصحاب الدخول المنخفضة وعقود الأعمال المؤقتة، بينما هم -بالأساس- من تستهدفهم المنتجات الحديثة بمبالغ زهيدة.
وختم الغطريفى، بأنه لا بد من توعية النشء بثقافة التأمين، فى المدارس والمناهج التعليمية؛ كى يتفهموا أن الأمر ما هو مصلحة لهم، لن يدركوا قيمتها إلا بالزمن.
وبدوره، اعتبر الدكتور محمد جودة؛ رئيس قسم التأمين بكلية التجارة بجامعة القاهرة، أن الدراسات الفقهية الحديثة قطعت آمال أصحاب الآفاق الضيقة وأجزمت أن النشاط التأمينى لا يتعارض مع الدين.
وأكد أن الوعى لدى فئات عريضة قد بلغ ذروته، إلا أن الظروف الاقتصادية الصعبة فى ظل الظروف الراهنة هى ما صرف أنظار المواطنين عن اقتناص البرامج التأمينية المناسبة لهم؛ إذ إن حجم الإنفاق لا يتناسب تمامًا مع الدخول الهزيلة، الأمر الذى شلّ أيديهم عما يريدون من الحصول على وثائق تأمين.
ولفت إلى أن الصورة السيئة للبعض عن قطاع التأمين وخاصة عند وقوع الأخطار المؤمن عليها والحصول على تعويضات إذ يجد بعض العملاء صعوبة فى صرف المطالبة ويواجهون حالات تعنت ومماطلة لذا فالقطاع فى حاجة لمزيد من الاهتمام بخدمات ما بعد البيع.
لقد صدرت حول التأمين آراء كثيرة منذ نشأته بمصر، فتاوى متباينة بين الحِل والتحريم المطلقين، بينما نحا بعض أصحاب الفتاوى الآخرين التفصيل فيه، فى حين أن ثمة أقوال رددها الكثيرون اتضح فيما بعد أنها لا تنطبق على المجال أصلًا، وإنما صُوِّر لأهلها غير ما تبطنه الحقائق.
إلا أن عزوف المواطنين عن التأمين لم يكن مردوده لعامل دينى صِرف، وإنما شابه، بدايةً، ممارسات توحى بالإهمال والنصب من الشركات العاملة بالقطاع، مع دعاية غير وافية لما يحتويه المجال من امتيازات وبرامج، انتهاءً بضعف الوعى لدى بعض الطبقات ذات الدخول التى تشكو بثّها وحزنها إلى الله.