من قواعد الإدارة والمفاوضات (من يضع الإطار يتحكم فى النتيجة). ويأتى توقيت دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسى بفتح حوار وطنى مع كل التيارات السياسية الحزبية والشبابية، ولجميع ممثلى المجتمع المصرى بكل فئاته ومؤسساته، حول أولويات العمل الوطنى بمصر للمرحلة القادمة، كتفعيل إيجابى أول – فى تقديرى – لدعوته الأساسية بمايو 2021 “لبناء الإنسان المصري”، حيث تجتمع الدعوتان شكلا ومضمونا بمفهوم (العمل المشترك) بين الشعب ومؤسسة الحكم لمصلحة مصر، ولكن هل سيكون حوارا أم توافقا أم مفاوضات؟
هل سيجلس الجميع على طاولة مستديرة أو مستطيلة أم هلالية أم يحل الموقف الحوار الافتراضي؟ هل سيكون حوارا – مفتوحا منفتحا، موضوعيا، حرا، عادلا، متكافئا – تُقدم وتتداول وتتبادل وتمتص فيه على طاولة واحدة، الآراء والمعلومات ووجهات النظر والاجندات وزوايا الرؤية، فتُستجلى النوايا والمصالح والخطط والتحالفات وجماعات الضغط والتأثير الخ؟ أم سيكون تفريغا وامتصاصا لشحنات متراكمة للشعب فى زمن حرج مصريا وعربيا وعالميا؟ كم ستكون درجة الصراحة والوضوح ومساحات السماح والاختلاف والنقد؟ وهل ستكون المشاركة منا والنتائج حقيقية بوزن الدعوة وأهدافها وحجم الفرصة؟ والأخطر؛ هل سيكون حوارا للعقول أم البطون أم مشتركا، ويتحول لنوع من الاستفتاء غير المسمى على خارطة طريق جديد غير معلنة؟
القيمة الحقيقية هى بلورة مُصدر الدعوة لغرض الحوار، فى أولويات العمل الوطنى خلال المرحلة الراهنة، ورفع النتائج لسيادته، سواء للعلم أو التفعيل أو استكمال الرؤية.
يرتبط حوار العقول بالحرية والكرامة والقيم والمعايير والاختلافات الجوهرية المُشكلة للهوية والآراء والمواقف والقرارات لتبزغ محاور؛ حرية الرأى والفكر والعقيدة، دور الجيش فى اقتصاد الحرب، قيمة ونضج القطاع الخاص، كفاءة الحكومة فى التصدى لواقع الحال، دور الإعلام والمشروع الثقافى المصري، مادة 98 عقوبات، الأمن المصرى بأنواعه، المواطنة والعلمانية، هوية أم دولة دينية، التنمية، شكل وقيمة وحدود المعارضة، واقع التعليم والصحة، مصالحات المعارضة والمحظورين، وغيرها من موضوعات تتبارى فيها العقول والعقائد والتيارات، فيكون كل حزب بما لديهم فرحون، ويتحول الحوار الوطنى لاختبار فهم مشاعر الشعب وهل للإدارة علم وقبول واستعداد بما يحتاجونه منها فعلا وستتبناه؟
أما حوار البطون – إن جاز القول – فمربطه (لقمة العيش) وجذورها وروافدها وتداعياتها وفرقها أيضا! وكما أن هناك إدارة الأزمات والإدارة بالأزمات، فهناك إدارة البطون بآفة الجوع والتجويع ليتحول العقل لبطن، أساس فلسفته القوة لا الحق، أو الحق الذى تعتبره القوة حقا، وليس أدل على ذلك من أزمات وحروب العالم الآن!
ترتبط عموما فلسفة الجوع، بمحاور هوية الاقتصاد وأدوات النظام المالى المطبق والخدمات العامة وسوق وحرية وأدوات وساعات العمل والضرائب والديون والوعى الجمعى والأهم دور الإعلام فى تلميع أو تتريب أو تورية الجوع، ليأتى حوار البطون متخفيا على استحياء مع النكت أو التذمر أو الاعتراض أو العنف (الاقتصاد-المال-الوفرة/الكساد-الفقر-البطالة-الجوع وتأثيره على الوعى وقيادة العقول).
تؤثر البطن الجائعة على العقل فى خياراته وقرارته وإدراكه ووعيه بذاته والآخرين (أنت لست حقا أنت عندما تكون جائعا)، لذلك إذا اقتصر حوارنا الوطنى على محاور حوار العقول فقط وتهمش حوار البطون، فسيكون حوارا ناقصا مريضا مريبا، وجرحا مفتوحا تنز نتائجه بالتعجيز والتأجيل والصياغات الإنشائية! فدوما حوار العقول ثري، متخم بالقضايا والأوجاع والتشابكات العنكبوتية والجزر المنفصلة، وبدون تحديد سيُظلم حوار البطون ويساق للذبح تحت أناقة ولجج وخبث العقول وبرامج الأجندات!
عندما نعترف بحالة جوع الواقع بمعنى الافتقاد لا المسغبة، سنتمكن من مناقشة جوع الاقتصاد الحالى للمراجعة (بتجربة الاقتصاد الاجتماعي، المتوسط بين الاقتصاد الرأسمالى والاشتراكي، وبه توازن الدولة وتساوى بين المواطنين وإعطاء الطبقات المتوسطة والفقيرة حقوقها، بصورة تضمن للأركان أدوارها وللقطاع الخاص نموه)، كذلك مناقشة جوع سوق وأدوات العمل لبيئة تشريعية وضريبية وتدريبية واعية بالمتغيرات والطلب العالمي، لتخترق معضلة التضخم والأسعار مع ثبات الأجور وضمور وتقييد آليات مصادر الدخل وإمكانيات الكسب! أيضا جوع النظام المالى للانفتاح المنضبط على المال العالمي، وجوع المنافسة لعدالة الفرص، وجوع القروض للتوظيف فى تنمية البشر لا الحجر فقط، وجوع المواطن لخدمات عامة مستقرة آمنة محترفة إلخ. وبالتالى فتعطيل أو تمييع حوار البطون، سيجعل من جوعها اللحظة الصعبة التى تركع تحته خيارات أطراف الحوار الوطنى فى حوار العقول، فتكون لحظة المسافة الفاصلة بين البقاء والفناء، الحرية والتبعية، القوة والضعف!
عبقرية توقيت الدعوة لإطلاق الحوار وسط المتغيرات العالمية الحالية، هو مناسبتها لمنح حوار البطون مقعدا على الطاولة، بصورة تجعلنا نحول بإبداع محاور الجوع إلى أدوات بناء استراتيجية لمصر الجديدة، فتروغ من أحابيل حوار العقول لتضبيب أولويات العمل الوطنى أو خلط أوراقه بلقمة العيش! لأن المعيار الحقيقى لنجاح الحوار، هو إيمان المشاركين بتفعيل نتائجه لا تثليجها! وأغلب محاور حوار العقول قابلة للتجميد، بخلاف محاور حوار البطون، التى يتسم جوعها بالديناميكية المولدة لحركة التغيير الإيجابى أو السلبي! ولم يخطئ مثلنا الشعبى (جاعوا زنوا، شبعوا غنوا)، فالغناء حالة عقلية نفسية، تفرزها الكفاية والوعى والاختيار والرغبة فى الحياة، ليكن من أولويات العمل الوطنى كيف نستعيد غناء المصريين؟
نجح طريق مصر الجديد بكبارى الأرض، لمعرفتنا بإحداثيات الأرض والعوائق ومواطن الضعف والاختناق، أما جسور البشر فمرجعها رؤاهم وحصتهم من المصالح وموقعهم فى خريطة الجوع والتجويع، فهل نحلم بحوار وطنى متعادل يصل لإحداثيات الجزر المنعزلة للبطون والعقول المصرية، لدرجة الربط بينها وتقريب مناطقها، لنخرج بأجندة عملية واقعية تكفل للعقول أمانها وموضوعيتها، وللبطون حريتها فى الوقوف لا الركوع، تحت خيارات عقول منهكة و/أو مستدرجة؟
الدعوة كريمة والفرصة أكرم ومصر هى الكرم ذاته، المستحقة منا التحاور بمنهجيات البقاء بنماء لا التواطؤ بجدال!