أدى موقف حكومة بكين المؤيد لروسيا فى حربها ضد جارتها أوكرانيا إلى انسحاب المستثمرين الدوليين من الأسواق الصينية، لدرجة أن مؤشر CSI 300 لأسهم الشركات هوى بأكثر من %15 منذ بداية العام وحتى ختام التعاملات أمس الاثنين، مقارنة بنفس الفترة من العام الماضى، ليسجل أدنى مستوى منذ عام 2014.
وأكد المحللون فى شركات إدارة الاستثمارات العالمية، مثل أرتميس إنفستمنت مانجمنت AIM البريطانية، أنه من الصعب جدًّا تحقيق أرباح فى أسواق المال الصينية منذ غزو روسيا لأوكرانيا مع هبوط العائد المعدل بحسب المخاطر إلى سالب 2.1، ليقترب من مؤشر جميع أسهم الشركات المدرجة فى بورصة كولومبو فى سيريلانكا الذى يتذيل مؤشرات البورصات فى العالم.
إفلاس سيريلانكا
وذكرت وكالة بلومبرج أن حكومة سريلانكا أعلنت بداية هذا الأسبوع وقف التداول بالأسهم لمدة 5 أيام، بعد رفع معدلات الفائدة وتخلفها عن سداد ديونها الخارجية، وسط صعوبات اقتصادية سببت تحركات احتجاجية، للمطالبة باستقالة الرئيس غوتابايا راجاباكسا قبيل محادثات تعتزم كولومبو إجراءها مع صندوق النقد الدولى فى واشنطن للتفاوض حول خطة إنقاذ لنقص العملات الأجنبية الضرورية لاستيراد السلع الأساسية وأزمة اقتصادية كبرى تتسم بنقص الغذاء والوقود وانقطاع التيار الكهربائى وتضخم متسارع وديون هائلة، فى أسوأ ركود منذ استقلالها عام 1948.
تراجع الاستثمارات الأجنبية
ويشعر المستثمرون فى أنحاء العالم بمخاوف بسبب صداقة تشى جينبينج، رئيس الصين، لنظيره الروسى فلاديمير بوتين، رغم العقوبات الغربية على حكومة موسكو لتهبط الاستثمارات الدولية فى الصين إلى 1.4 مليار دولار فقط خلال الربع الأول من العام الحالى، لتسجل أدنى مستوى خلال الربع نفسه من 2018.
ويقول سايمون إيديلستين، خبير الاستثمارات فى شركة AIM التى تدير ثروات بقيمة أكثر من 37 مليار دولار، إن المستثمرين باعوا مؤخرًا جميع الأسهم التى اشتروها العام الماضى فى شركات صينية، بسبب الموقف السياسى للرئيس تشى جينبينج الذى يعادى الدول الغربية، ويهدد السلام العالمى.
ويصف بريندان آرين، رئيس قسم الاستثمار بشركة كرين فاندز أدفايزرز، عمليات بيع المستثمرين الدوليين للأسهم الصينية بأنها تتم بسرعة قياسية وبطريقة جماعية غير مسبوقة، لاستبدال الأسهم الصينية المدرجة فى البورصات الصينية والأمريكية بأسهم مدرجة فى هونج كونج لتقليل المخاطر إلى أقل حد ممكن.
وهوت العوائد فى سوق السندات الصينية الدولارية مرتفعة العائد خلال الربع الماضى لتسجل أدنى مستوى منذ 10 سنوات على الأقل، كما أن المؤشر الاسترشادى للسندات السيادية الصينية أجل 10 سنوات لم يتفوق على أذون الخزانة الأمريكية المناظرة لها لأول مرة منذ عام 2010.
انسحاب الصناديق العالمية
وبدأت الصناديق الاستثمارية العالمية تنسحب من الأسواق الصينية، وباعت فى مارس الماضى فقط ما قيمته 7 مليارات دولار من الأسهم الصينية، من خلال روابط تبادل فى بورصة هونج كونج، وتخلصت أيضًا على مدار الشهرين الماضيين من ديون الحكومة الصينية قيمتها 14 مليار دولار.
ويشعر ستيفين إينز العضو المنتدب بشركة SPI لإدارة الأصول، بالسعادة لأنه لم يشترِ أى سندات صينية هذا العام، لأن جميع المستثمرين أخذوا منذ غزو أوكرانيا يبيعون كل السندات التى اشتروها بسبب انتشار المخاوف فى الأسواق المالية من علاقات بكين مع موسكو وعدم إدانتها لعملية غزو أوكرانيا.
الخسائر المرتقبة
ويرى جوفين تيو، رئيس شركة أموندى السنغافورية للاستثمار، أنه من الأفضل الابتعاد عن الاستثمار فى بكين خوفًا من الخسائر المرتقبة، بسبب العقوبات الشديدة على روسيا وعلى كل من يؤيدها، ويتعامل معها برغم أن الأسواق الصينية تعد ملاذًا آمنًا للأصول بفضل أن الصين صاحبة ثانى أكبر اقتصاد فى العالم تملك سوق سندات بقيمة 21 تريليون دولار وبورصات أسهم فى بكين وشنغهاى وشينزين وهونج كونج قيمتها مجتمعة 16.4 تريليون.
وتصف لين جينج ليونج، محللة سوق السندات السيادية فى أسواق آسيا السيادية بشركة ثريدنيديل إنفستمنت للاستثمارات فى كولومبيا ولبالا ادير ثروات بقيمة 754 مليار دولار، الصين التى تتسم بنمو مرتفع وتضخم منخفض وتنوع أنشطتها الصناعية وبسلة عملات تخلو تقريبًا من التقلبات بأن عوائدها المعدلة ضد المخاطر أفضل من مثيلتها فى أى دولة أخرى.
الصراع «الروسى – الأمريكى»
وكما أن الشركات الصينية تنفذ تدابير لتصبح أكثر جاذبية لصناديق الاستثمار العالمية، فقد تعهدت الهيئات الرقابية الشهر الماضى بضمان تطبيق سياسات أكثر شفافية وتيسير العمل بها لاستعادة المستثمرين الذين خسروا العام الماضى مئات المليارات من الدولارات، بسبب هجمات حكومة بكين على شركات التكنولوجيا ومصادرة أصولها وتكبيدها خسائر فادحة، علاوة على أن الصين وافقت على منح الهيئات الرقابية الأمريكية حق مراجعة حسابات الشركات الصينية المدرجة فى البورصات الأمريكية.
ورغم أن عمالقة وول ستريت مثل بنكى JP مورجان تشيز وجولدمان ساكس تدفقوا لامتلاك مشروعات كاملة وشركات فى الصين فإن شركات عالمية أخرى باعت استثماراتها وأصولها فى الصين، ومنها شركة فرابورت الألمانية لإدارة المطارات التى باعت فى مارس الماضى حصتها فى مطار تشيان لمستثمر محلى، لتنهى بذلك نشاطها منذ 14 عامًا، ولكنها غير قادرة على بيع حصتها فى مطار سان بترسبورج بسبب رد فعل موسكو على العقوبات الغربية الذى يتمثل فى مصادرة جميع الأصول الأجنبية التى يريد ملاكها بيعها والخروج من روسيا.
سوق الأسهم
وكان المستثمرون الدوليون يضعون المزيد من الأموال فى سوق الأسهم الصينية قبل غزو روسيا لأوكرانيا؛ إذ شهدت صناديق الأسهم فى البر الرئيسى الصينى تدفقات صافية قدرها 16.6 مليار دولار، فى يناير الماضى للمرة الرابعة منذ تفشى وباء كورونا التى تجاوزت فيها التدفقات الشهرية 10 مليارات دولار، بعد أن زاد اهتمام المستثمرين بالصين خلال الربع الأخير من العام الثانى للجائحة.
لكن العقوبات الغربية وتجميد الأصول وانسحاب الشركات الأوروبية والأمريكية من الاقتصاد الروسى جعل موسكو تتجه للصين كحليف قوى بما فيه الكفاية، تستطيع الاعتماد عليه كمصدر للدعم المحتمل، ولكن هذه العقوبات تهدد الشركات الصينية التى تتعامل مع روسيا، ما يجعلها تفكر مرتين قبل التضحية باستثماراتها فى أوروبا والولايات المتحدة.
الشراكة مع وروسيا
ومع ذلك يعتقد أنطون سيلوانوف وزير المالية الروسى أن الشراكة مع الصين ستواصل السماح بالحفاظ على التعاون الذى تحقق مع المحافظة عليه وتعزيزه وسط إغلاق الأسواق الغربية أمام الأنشطة الروسية، رغم أن مستشار الأمن القومى الأميركى جيك سوليفان حذر الصين من أنه ستكون هناك عواقب، بما فى ذلك فرض عقوبات ضخمة عليها، فى حال ساعدت روسيا فى الالتفاف على العقوبات.
وأكد سيلوانوف أن حملة تجميد الأصول التى تقودها الولايات المتحدة منذ سنوات، طالت نحو نصف احتياطيات البنك المركزى الروسى تقريبًا، أى 300 مليار دولار من أصل 640 مليار دولار، فى صورة ذهب وعملات صعبة لاستكمال موجة سابقة من العقوبات منذ ضمها شبه جزيرة القرم عام 2014.
أما الاحتياطيات المتبقية لدى البنك المركزى فهى فى الغالب من الذهب واليوان الصينى، ما يجعل مصدر بكين المحتمل الرئيسى للعملات الأجنبية لدعم الروبل الروسى، وسط هروب رأس المال المدمر إلى خارج روسيا، لا سيما أن وزير الخارجية الصينى وانغ يى أوضح لنظيره الأوروبى جوزيف بوريل أن الصين ليست طرفًا فى الأزمة، ولا تريد أن تؤثر العقوبات على الصين التى يجب أن تتمتع بالحق فى حماية حقوقها ومصالحها المشروعة.
وتحاول حكومة بكين التى ترفض عقلية الحرب الباردة -والتى تصف علاقتها مع روسيا كالصخر- تقديم الكثير لروسيا مثل فتح خط مبادلة كامل مع روسيا وقبول الروبل كعملة للمدفوعات، مقابل أى شيء تحتاج إليه موسكو، بما فى ذلك الواردات المهمة كالأجزاء التكنولوجية وأشباه الموصلات التى حظرها الغرب عن موسكو فى العقوبات الأخيرة، فهذا يعنى أن بكين يمكن أن تسد الثغرات التى تركتها العقوبات الغربية فى الاقتصاد الروسى.
تصاعد التضخم
ويرى ماكسيميليان هيس، المتخصص فى شئون آسيا الوسطى بمعهد أبحاث السياسة أن الصين يمكنها أن تساعد روسيا بقوة، لكنها ربما تخاطر بمواجهة عقوبات ثانوية خطيرة عليها وتجديد حرب تجارية مؤلمة وعقوبات من الولايات المتحدة والغرب قد تهدد الاقتصاد خاصة مع انعدام اليقين فى الأسواق الصينية على مدى الأسابيع القليلة الماضية، وسط تصاعد التضخم وتفشى فيروس كورونا الجديد فى شنغهاى المركز المالى والصناعى، ما يجعل الوقت الراهن ليس هو أفضل وقت لدعم روسيا رغم علاقتها المتينة والطويلة معها.
وتشعر الصين بسعادة بإحداث مشكلات للغرب ولا تمانع فى تحويل روسيا تدريجيًا إلى شريكها الأصغر المطيع، ويمكنها أيضًا الاستفادة من موقعها الحالى لشراء النفط والغاز والسلع الأخرى الروسية بأسعار مخفضة كما تفعل مع إيران.
وأعلنت بكين وموسكو قبل الحرب فى أوكرانيا عن شراكة استراتيجية بلا حدود، وأكدتا أن الهدف منها هو التصدى للنفود الأميركى، كما أن موقف الصين، فى الحرب أكد إلقاء اللوم فى نهاية المطاف على توسّع الولايات المتحدة وحلف الناتو شرقًا فى الصراع مع روسيا، وأنه بغض النظر عن مدى خطورة المشهد الدولى فإنهما ستحافظان على الدعم الاستراتيجى وتطوير شراكة شاملة بين الدولتين.
«موديز» تسحب تصنيفات الشركات الروسية
وأشارت وكالة موديز الأمريكية للتصنيف الائتمانى، والتى سحبت من قبل جميع تصنيفاتها الائتمانية للكيانات الروسية، أن حكومة موسكو ربما تكون فى حالة تخلف عن السداد، بعد أن حاولت دفع مستحقات سنداتها الدولارية بالروبل، وهو ما قد يكون من أكبر التبعات حتى الآن لاستبعادها من النظام المالى الغربى منذ قيام بوتين بشن الحرب على أوكرانيا.
وإذا أعلنت موسكو عدم قدرتها على سداد ديونها الدولارية فسيكون ذلك أول تخلف كبير لروسيا عن سداد سندات خارجية منذ الثورة البلشفية فى 1917، غير أن الكرملين يقول إن الغرب يدفع البلاد دفعا للتخلف عن السداد من خلال فرض عقوبات معوقة لم تتمكن بسببها من السداد، ولذلك قدمت فى بداية الشهر الجارى مدفوعات مستحقة على اثنين من السندات السيادية يحل أجلهما فى 2022 و2042، بالروبل بدلاً من الدولار الذى كان يتعين عليها الدفع به بموجب شروط إصدار هذه الأوراق المالية.
العجز عن السداد
وجاء فى بيان أصدرته وكالة موديز أن روسيا يمكن اعتبارها فى حالة تخلف عن سداد الديون بموجب تعريف الوكالة أنه إذا لم تتم التسوية بحلول الرابع من مايو، وهى نهاية فترة السماح، وأن عقود السندات لا تتضمن أى بند يتيح السداد بأى عملة أخرى غير الدولار رغم أن بعض السندات الدولية الروسية الصادرة بعد 2018 تسمح بالدفع بالروبل بموجب بعض الشروط، غير أن تلك الصادرة قبل 2018، مثل السندات المستحقة فى 2022 و2042، لا تسمح بذلك.
وكانت وزارة الاقتصاد الروسية أعلنت عن ارتفاع التضخم إلى %17.49 حتى 8 من إبريل الحالى، وهو أعلى مستوى منذ فبراير 2002، ومقارنة بمستوى %16.7 خلال الأسبوع الأخير من مارس ليقفز التضخم لأعلى مستوى فى 20 عامًا وسط تقلبات الروبل، بسبب تطبيق عقوبات غربية على موسكو لترتفع أسعار المستهلكين %7.61 خلال مارس فى أكبر زيادة على أساس شهرى منذ يناير 1999.
مخاطر الركود باقية
ويستهدف البنك المركزى الروسى هبوط معدل التضخم السنوى عند %4، وقرر خفض معدل الفائدة بنحو 300 نقطة أساس، لينزل عند %17، مع توقعات بتطبيق مزيدًا من عمليات الخفض فى المستقبل، لكنه حذر من أن التضخم الاستهلاكى قد يواصل التسارع على أساس سنوى، وأن الروبل سيؤدى إلى ضغوط تضخمية صعودية.
ومن المتوقع أن يتراوح التضخم فى موسكو بين 17 إلى %20 هذا العام، بحسب محللى البنك المركزى الذى خفض حصة الدولار الأميركى فى احتياطاته من الذهب والنقد الأجنبى عند %10.9 على مدار فترة الستة أشهر المنتهية فى مطلع يناير القادم، ولكن توقع محللون استطلعت رويترز آراءهم أواخر مارس الماضى تسارع التضخم هذا العام إلى %23.7 فى المتوسط، ليسجل أعلى مستوى منذ 23 عاما.
توقف حركة الشحن
وتستعد روسيا لانخفاض حاد فى تدفقات الشحن، وعجز فى الحاويات، بعد أن أوقفت شركات شحن الحاويات الدولية الرئيسية عملياتها فى البلاد، بسبب حملة موسكو العسكرية فى أوكرانيا.
وأوقفت أكبر 3 شركات شحن حاويات فى العالم، ميرسك الدنماركية وCMACGM الفرنسية وMSC ومقرها سويسرا، حجوزاتها من روسيا وإليها بعد أن أرسلت موسكو قوات إلى أوكرانيا فى 24 فبراير، ما أدى إلى موجة من العقوبات الغربية.
وقالت هيئة الجمارك الروسية الأسبوع الماضى، إن دول الاتحاد الأوروبى التى لها حدود مشتركة مع روسيا وروسيا البيضاء منعت بعض شاحنات البضائع المسجلة فى البلدين من دخولها منذ يوم الجمعة، وأنه لن يكون بإمكان المركبات المستخدمة كوسائل نقل دولية وتحمل لوحات أرقام من روسيا وروسيا البيضاء نقل البضائع إلى أراضى الاتحاد الأوروبى.
وأوضح ديمترى بانكوف، الرئيس التنفيذى لشركة ديلو جروب، أكبر مشغل حاويات فى روسيا، أنه يتوقع أن يكون الانخفاض فى الشحنات من وإلى الموانئ الروسية فى المنطقة الشمالية الغربية حوالى 90 إلى %95 بدءًا من مايو المقبل إذا لم تظهر بدائل فى السوق ومنها محطات الحاويات فى الموانئ الروسية مثل الموجودة فى سانت بطرسبرج وأوست-لوجا.
ويتوقع «بانكوف» أن يؤدى خروج كبرى شركات شحن الحاويات، التى تنقل معظم السلع المصنعة حول العالم، إلى انخفاض كبير فى الشحنات إذا لم يتم إيجاد بدائل لهذه الشركات قريبًا، وأن الموانئ فى الشرق الأقصى الروسى والبحر الأسود وبحر آزوف ستعانى بشكل أقل من خروج الشركات الكبرى لشحن الحاويات لأن نصيبها من حركة الشحن كان أقل من حصة شمال غرب روسيا.