ولا عجب في ذلك.. فالثابت في الثقافة العربية، هو ارتباط معاني النبل والرجولة والشهامة وقيم الحق والخير والجمال بالمواقف والأحكام الحادة ــ حتي ولو لم تكن هناك من الأصل حاجة إليها ــ فالرجل الحق هو من يتشدد، والمرأة إما جميلة جدا أو قبيحة جدا، والموقف الوسط لا وجود له أصلا، لان الجميع يتفاخر بعدم معرفته له، فالمجد كله لمن يتخذ الموقف الناصع البياض ــ هكذا يبدو لونه إلي صاحبه ــ والخزي كله أيضا لمن يضع نفسه في الموقف الحالك السواد ــ هكذا يتجلي دائما لون الآخر ــ .
وفي وقت الأزمات ــ كما هو الحال في أحداث غزو العراق الأخيرة ــ يحلو لكل منا أن يمارس هوايته في تصنيف البشر والمواقف بمنهجنا المعتاد: هذا شيطان وهذا ملاك، تلك خيانة وهذه وطنية، بل ولا يخجل البعض من تقلب مواقفه وأحكامه من النقيض إلي النقيض ــ دون أن يشعر بذلك ــ مع تسارع وتطور الأحداث .
فإذا عرقلت المقاومة الغزو، وصفنا الشعب العراقي بالبطولة، وإذا ما انتكست المقاومة ودخل الأمريكيون بسهولة إلي بغداد، صار نفس الشعب العراقي لا يستحق مجرد الدفاع المعنوي عنه، وهكذا أيضا تقلبت رؤيتنا لصدام حسين ــ علي مدار الأيام السابقة ــ من ديكتاتور إلي بطل، إلي قاتل ثم إلي زعيم قومي، وأخيراً إلي خائن مع فراره من بغداد، ثم إن هناك بعض الأسئلة الفرعية الصعبة رغم استسهال العقلية العربية لطرحها والإجابة عليها مثل :
ــ هل الأكراد المتحالفون في شمال العراق مع القوات الأمريكية خونة أشرار أم وطنيون أخيار؟ العقلية العربية ستختار بسهولة الإجابة الأولي مع أن الأمور في الواقع أكثر تعقيدا من ذلك، فما هو المقصود بالوطنية وبالنسبة لمن؟! بمعني هل الكردي «العراقي» يري وطنه في حلم الاستقلال في كردستان، أم أنه يري ــ كما نري ــ وطنه في عراق موحدة تحت قيادة صدام، أو أي حاكم آخر ضمن وطن عربي أكبر؟ وحتي ولو كانت المواطنة العراقية هي أساس انتمائه، ألا يمكن أن يتعرض هذا الانتماء للاهتزاز، بفعل القهر والذبح والقتل بالأسلحة الكيماوية؟ بالمناسبة لا يستهدف طرحنا لهذه التساؤلات تبرير فعل هؤلاء الأكراد، أو تقديم مدخل مخادع لوصفهم بالأخيار .
ــ هل المشاهد التي نقلتها لنا شاشات الفضائيات لمواطنين عراقيين وهم يرحبون بالجنود الأمريكيين أو يدوسون علي تمثال صدام بأحذيتهم أو ينهبون بعض المحلات ومقار الوزارات ومنازل قيادات حزب البعث.. هل هذه المشاهد تكفي لتعميم القول بأن الشعب العراقي كله خائن أو مجموعة من اللصوص لا يستحق التعاطف معه؟! أو تجعلنا نصدق ــ كما يقول بوش ــ إن العراقيين تواقون للتحرر علي أيدي قوات التحالف! الإجابة أيضا ليست بهذه السهولة.. فهذه المشاهد لحفنة من الأفراد لا ينبغي بالضرورة أن تعبر عن موقف شعبي عراقي ــ لاحظ أنها من الممكن أن تكون معبرة ــ كما أن ظاهرة النهب في أوقات الفوضي والتظاهرات والحروب، لا تقتصر علي شعب بعينه دون الآخر بغض النظر عن درجة تخلفه أو تقدمه بما في ذلك الشعب الأمريكي ذاته، إنما دائما ما توجد فئات من المحرومين والمهمشين والجياع والفقراء، تتحين الفرصة للانتقام والثأر لنفسها من الجميع ــ وقد يكون لديها الحق ــ ومن ثم فمشهد من هنا أو هناك، لا يصلح لتعميم وصف اللصوص علي العراقيين أو غيرهم من الشعوب .
ــ وهناك سؤال ثالث أكثر إيلاما وصعوبة.. هل موقفنا السلبي من الحرب علي العراق يجعل منا أخيارا أم أشرارا؟.. مرة أخري الإجابة ليست سهلة، فربما يقول البعض إن الضغط الشعبي ــ وهو أضعف الإيمان ــ كان من الممكن أن يضغط علي الحكومات فيدفعها إلي مواقف أكثر إيجابية تجاه وقف الحرب، ولكن هذا قد يكون مردودا عليه بسؤال لاذع وهو: وماذا فعلت كل المظاهرات الشعبية التي اندلعت في كافة عواصم العالم؟ هل نجحت في وقف العدوان؟ أكثر من هذا هل نجحت المواقف المتشددة غير المسبوقة لحكومات دول كبري ــ كفرنسا وألمانيا وروسيا ــ في وقف الخطط الأمريكية؟ والإجابة بالطبع لا .
بل إن العديد من هذه الحكومات ربما تتحسر الآن علي عدم رضوخها للضغوط الأمريكية، بعد أن ضاعت منها أنصبتها من كعكة اعمار العراق .
وهناك سؤال أخير أترك الإجابة عليه لفطنة القارئ بعيدا عن فلسفة «الأبيض والأسود» وطريقة «الطيب والشرس والقبيح» في التفكير: هل اتهامنا للغير بأقذع الأوصاف.. ناجم في حقيقة الأمر عن شعور داخلي بالعجز والتقصير، ينجم عنه رغبة عارمة في تنحية التهم عنا وإلصاقها بالآخرين؟!.. ــ مرة أخري ــ الإجابة ليست سهلة .