تطلق أسواق الديون في بعض أكثر دول العالم عرضة للمخاطر إشارات تحذيرية في حين يزيد غزو روسيا لأوكرانيا الضغوط على اقتصاداتها الهشة.
تدفع المخاوف، التي أثيرت حول ما إذا كانت روسيا ستفي بالتزاماتها نحو سداد فوائد الديون هذا الشهر، المستثمرين حالياً إلى التفكير في أي من الدول المدينة التي قد تتعرض لخطر العجز عن السداد، مما أدى إلى زيادة تكلفة التأمين ضد التعثر في بلدان الأسواق الناشئة إلى أعلى مستوى منذ الفوضى التي تسبّبت فيها جائحة كورونا عام 2020.
تبعات غزو روسيا لأوكرانيا
لم ينتظر كثير من المستثمرين حتى يكتشفوا بأنفسهم. باعت الصناديق سندات البلدان النامية بكثافة هذا العام، وبلغت قيمة التخارج 14.3 مليار دولار كما في 16 مارس الجاري، وفقاً لـ”بنك أوف أميركا” الذي استند على بيانات شركة “إي بي إف آر جلوبال” لأبحاث محافظ الأسواق الناشئة.
قالت كارمن راينهارت، كبيرة الاقتصاديين في “البنك الدولي”: “على مدى تاريخي الطويل من البحث؛ كانت العدوى واحدة من الظواهر التي تتكرر باستمرار. علينا أن نظل في يقظة وانتباه دائمين ومتابعة كل شيء؛ لأنَّ هناك الكثير الذي لا نعرفه”.
تخطّت قيمة سندات الشركات والسندات السيادية الدولارية التي يتم تداولها عند مستويات مخاطرة قصوى – التي تعتبر أعلى من عوائد سندات الخزانة الأمريكية بمقدار 1000 نقطة أساس – بالفعل 500 مليار دولار. تشمل هذه السندات حتى الآن 14 دولة قابلة للزيادة، غالبيتها من الدول التي تعاني فعلاً في محاولة التعافي من جائحة كوفيد-19.
تأثير العقوبات
تضاف روسيا نفسها إلى هذه القائمة، منذ الحرب في أوكرانيا، وجارتها بيلاروسيا، لأنَّهما تلقّتا ضربات العقوبات الاقتصادية.
أول سؤال كبير بالنسبة للمستثمرين هو ما إذا كانت روسيا، التي عُزلت عن نظام المدفوعات الدولية، وتواجه ركوداً اقتصادياً عميقاً؛ ستستطيع تجنّب التعثر في سداد الديون. وقال بعض حائزي سندات روسيا المقوّمة باليورو التي حان أجل سداد عوائدها الأسبوع الماضي، إنَّهم تسلّموا قيمة الكوبونات بالدولار الأمريكي، مما يمثل مصدراً للارتياح والطمأنينة للمستثمرين الذين كانوا يخشون أن تلجأ روسيا إلى تسوية التزاماتها بعملة الروبل. ومع ذلك؛ تشير عقود مبادلة الائتمان الروسية إلى مخاطر تعثر في سداد الالتزامات بنسبة 48% في غضون عام.
بالنسبة إلى بيلاروسيا، التي استخدمتها القوات الروسية موقعاً للانطلاق؛ ترى مؤسسة “موديز إنفستورز سيرفيس” أنَّ تعرّضها للتعثر “محتمل جداً”، وقد قامت بتخفيض تصنيفها الائتماني الشهر الحالي لأربع مستويات إلى “Ca”، أو إلى ثاني أدنى مستوى لديها، لتتخطى بذلك لبنان باعتبارها أعلى الديون مخاطرة في العالم، مع تسعير سنداتها بأقل من سبع سنتات عن كل دولار.
وقعت جمهوريات سوفيتية سابقة أخرى في الورطة نفسها، في ضوء علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع روسيا. تكبّد حاملو سندات طاجيكستان، التي تمثل تحويلات عمالها من روسيا ما يقرب من ربع اقتصادها، خسائر 26% منذ 21 فبراير الماضي عندما بدأت موجة بيع في السوق على أثر تقارير عن تحرك القوات الروسية. وخسرت سندات جورجيا الدولارية أيضاً نسبة بأرقام مزدوجة.
قال كارلوس دي سوسا، محلل استراتيجي الأسواق الناشئة ومدير محافظ لدى شركة “فونتوبل أسيت مانجمنت في زيورخ: “ستعاني البلاد التي تعتمد كثيراً على تحويلات من روسيا في ضوء ضعف قيمة الروبل، واحتمال فقدان الوظائف عبر الخروج من روسيا”.
أزمة تجارية
تعتمد دول خارج الكتلة السوفيتية السابقة على روسيا وأوكرانيا في وارداتها من الوقود والغذاء. ومع توقف هذه التوريدات أو منعها بسبب العقوبات؛ انخفضت جودة الديون الباكستانية إلى تصنيف مرتفع المخاطرة، ليتكبّد المستثمرون خسائر 20%. أما سندات سريلانكا، التي كانت عالية المخاطرة قبل الحرب؛ فقد انخفضت أسعارها إلى أدنى من 50 سنتاً بسبب مخاوف تعثرها.
تم تحديد تقييم الجدارة الائتمانية لـِ باكستان عند مستوى “B”، أي أقل من الدرجة الاستثمارية بخمسة مستويات، في حين ينخفض تقييم جدارة سريلانكا بمستويين عن ذلك؛ إذ يبلغ “CCC”. وينتظر أن يشهد البلدان ارتفاعاً في مستوى التضخم ليبلغ نحو 10% في العام الحالي، مع ارتفاع سعر النفط متجاوزاً 100 دولار للبرميل بسبب الحرب وبلوغ أسعار العقود الآجلة للقمح مستوى قياسياً.
قال كارل وانغ، رئيس قسم أوراق الدخل الثابت في شركة “أفينيو أسيت مانجمنت” في هونغ كونج: “إنَّ تصنيف B وحدة تقييم ضعيف – وهو هشٌّ بنسبة كبيرة لدرجة أنَّ الناس سيبيعون سندات باكستان أولاً عند الشعور بأي خوف”. وأضاف أنَّ الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الذي أطلق جولة لزيادة أسعار الفائدة الأمريكية يوم الأربعاء الماضي، يتسبب هو الآخر في “عملية إعادة تقييم” في ديون الأسواق الناشئة.
مصر وتركيا
كما أنَّ الدول التي مازلت عرضة لأعلى الخسائر هي تلك التي تستفيد من السياحة الروسية والأوكرانية بالإضافة إلى البضائع. فقد تمثل الأزمة مشكلة أطول أمداً بالنسبة إلى بلدين مثل مصر وتركيا، إذ تعد روسيا ضمن أكبر شركائهما التجاريين.
وبرغم أنَّها لم تبلغ مستوى مرتفع المخاطرة؛ تعرّضت السندات المحلية لتركيا إلى أعنف خسارة بين الأسواق الناشئة الأخرى منذ 21 فبراير، وقد انخفضت قيمة الليرة بنحو 10% هذا العام، أي أكثر من نسبة انخفاض العملة الأوكرانية. وسجل عجز الحساب الجاري التركي أعلى مستوى في 5 سنوات، وارتفعت تكلفة عقود مبادلة الائتمان التي تحمي ضد التعثر في السداد إلى أعلى مستوى منذ الأزمة المالية العالمية.
قال تيم أش، محلل استراتيجي الأسواق الناشئة في شركة “بلوباي أسيت مانجمنت” في لندن: “تستعد تركيا لتتلقى أعنف الآثار السلبية من بلاد أخرى بسبب الحرب. فارتفاع أسعار الطاقة والغذاء وخسارة إيرادات السياحة ستؤدي إلى تدهور حالة ميزان المدفوعات المتردية أصلاً، وتفاقم مشكلة التضخم إلى مستوى غير مستدام في الحقيقة. ومن الصعب حقاً أن تتجنب تركيا أزمة في ميزان المدفوعات الآن دون تلقي مساعدة خارجية”.
أما عن مصر؛ فتتجه حوالي 6.6% من صادراتها إلى أوكرانيا وروسيا، في حين تستقبل 40% من السياحة الوافدة من هذين البلدين. وسيضعها ذلك ضمن أكثر البلدان تأثراً، بحسب بنك “ستاندارد بنك جروب”، أكبر بنوك أفريقيا من ناحية قيمة الأصول. ستفاقم هذه الأزمة من تعرض مصر لمخاطر بيع الأجانب لسنداتها، وفق تصريحات شركة “فيتش ريتينغ” للتقييم الائتماني.
تتفاوض مصر فعلاً مع صندوق النقد الدولي على مساندة محتملة، ربما تشمل منحها قرضاً، وفقاً لمصادر مطلعة على الموضوع. وقد ارتفعت علاوة المخاطرة على الديون المصرية إلى رقم قياسي مسجلة 1040 نقطة أساس في الشهر الحالي، وفق مؤشر “جيه بي مورغان تشيز”.
دور الطاقة
ليست جميع الأنباء سيئة للمستثمرين في ديون الأسواق الناشئة. فقد ارتفعت أسعار سندات الدول المنتجة للسلع الأولية في الشهر الماضي بفضل صعود أسعار الطاقة، مع تصدّر أنجولا وجنوب أفريقيا قائمة الدول الفائزة. وقد لحقت بهما ديون الدولتين المنتجتين للنفط في الشرق الأوسط، البحرين وعمان؛ علماً أنَّهما تعانيان تقييماً مرتفع المخاطر.
لدى دول أمريكا اللاتينية صلات مباشرة أقل مع روسيا وأوروبا الشرقية، وهي مؤهلة من بعض النواحي للاستفادة من صعود أسعار السلع الأولية والغذاء الناتج عن الأزمة.
ومع ذلك؛ فإنَّ ضربة كبيرة لنمو الاقتصاد العالمي يمكن أن تفاقم المعاناة التي تشعر بها المنطقة فعلاً، والتي عانت سلسلة من تعثر الحكومات أثناء انتشار الجائحة. وفي حين كانت الاقتصادات الكبيرة مثل الأرجنتين تعاني قبل انتشار الفيروس؛ فإنَّ دولة تعتمد على السياحة مثل بليز في أمريكا الوسطى كانت فرصتها ضئيلة في الوفاء بالتزامات الديون.
قال تشارلز روبرتسون، كبير الاقتصاديين لدى شركة “رينيسانس كابيتال”: “سيكون الوضع شديد الصعوبة على بعض الأسواق الناشئة. وفي المجمل؛ هذه الأوضاع سيئة بالنسبة إلى آسيا، وجيدة لأمريكا اللاتينية، وللدول المصدرة للنفط في أفريقيا والشرق الأوسط، وسيئة قطعاً بالنسبة إلى المقاصد السياحية والدول المستوردة للنفط والغذاء”.