أزمة الزعامة السياسية (11)
احتل «ميرابو» أو الكونت دى ميرابو، مكانة مرموقة بين زعماء الثورة الفرنسية، وكان من أخطب خطبائها، هو القائل للعبارة المشهورة فى مقر اجتماع الجمعية الوطنية: «نحن هنا بإرادة الشعب، ولن نخرج من هنا إلاَّ على أسنة الرماح».
كان من طبقة النبلاء، ولكن طبقته تبرأت منه لانحيازه المستمر للجماهير، وتجمع الروايات على أنه كان مستهترًا فاجرًا فى شبابه، وامتلأت حياته بالفضائح والديون، واعتُقل بطلب أبيه بأمر ملكى لتأديبه، ولكنه هرب من السجن مع زوجة مأمور السجن، وفر إلى إنجلترا وهولندا، وقضى 42 شهرًا سجينًا فى سجن «فانسين»، ما بين سنتى 1777، 1780. وعاش على ما يكتبه من منشورات وكتيبات ضد الملكية المطلقة، وكما رفضته طبقة النبلاء رفضته الطبقة الثالثة، وأخفق فى انتخابات «مجلس الطبقات»، ولكنه عاد وفاز فوزًا كبيرًا كنائب عن «الطبقة الثالثة»، فى اكس ان برفاتس ومرسيليا.
ورشحته خطبه لشق طريقه، واستخدم بلاغته فى الدعوة للديمقراطية، ولكن فى حدود الملكية المقيدة أو الملكية الدستورية، ولكن فى مايو 1790 بعد عام من قيام الثورة، دفعته أزماته المالية إلى الاتصال سرًّا بالبلاط، فاشتراه القصر الملكى ليدافع عن سياسته مقابل تسديد ديونه، وكان فى هذا مقتله. دفن عندما مات 24 أبريل 1791 فى جنازة مهيبة، فى «البانتيون» مقبرة الخالدين، بل وكان أول من دفن فيها، ولكن ما لبث أن افتضح اتصاله بالقصر وتواطئه معه، فأُخرج رفاته من المقبرة فى سبتمبر 1794، وأُلقى به فى مقابر العامة !
كانت أزمته حاجته المستمرة للمال لتغطية ديونه المتزايدة، مما جرّه إلى عدم حفظ التوازن بين سلطة العرش وسلطة الأمة، وتخيل أنه يستطيع أن يكون فى خدمة العرش والشعب معًا.
قيل إنه فى يوم 3 يوليو 1790، وهو يوم مناقشة الجمعية التأسيسية لمن يكون له إعلان الحرب والسلم، هل الملك أم الجمعية الوطنية، فى ذات اليوم كان «ميرابو» على لقاء مرتب مع الملكة «مارى إنطوانيت» فى حدائق قصر «سان كلو»، بعد أن كان «ميرابو» قد تلقى فى نهاية مايو مبلغًا من المال من القصر، وإذا به يدافع فى الجمعية التأسيسية عن حق الملك فى إعلان الحرب والسلم، مما جعل الجماهير تنقلب عليه وتطالب بإعدامه شنقًا بوصفه عدو للشعب.
تعالت هذه الاتهامات المضادة، قبل أن يعرف الشعب أنه خرج من اجتماع الجمعية التأسيسية ليلتقى بالملكة، ولم يقطع أحد بما دار بينهما، وإن كان البعض يوحى بأن «ميرابو» طرح على «مارى إنطوانيت» تصوره لكيفية إنقاذ العرش وحريات الشعب معًا، ونُقل أنه لم ينصرف من اللقاء قبل أن يُقبّل يد الملكة قائلًا لها فى حرارة :
«سيدتى إن الملكية قد أُنقذت».
ومن حسن حظ «ميرابو» أنه مات بعد شهر من هذا اللقاء، قبل أن يتسرب لقاؤه السرى بالملكة، وتواطؤه مع القصر.
ومن هنا كانت المفارقة الهائلة بين التشييع المهيب لجثمانه ودفنه، وبين إخراج رفاته من «مقبرة الخالدين» ورميه إلى حيث ألقت !
يوم مات فى 12 أبريل 1791، كان الحزن عليه عظيمًا وشاملاً، وأراد سكرتيره الذى يعبده أن ينتحر بحز رقبته، وأغلقت المسارح، وفضت الجماهير حفلاً راقصًا، وسار على رأس موكب الجنازة الفتى الذهبى «لافاييت»، ثم رئيس الجمعية الوطنية، وخصصت كنيسة «سانت جنفييف» لتكون مقبرة لعظماء فرنسا تحت اسم «البانتيون»، وأمر بأن يكون «ميرابو» أول من يدفن فيها، وعلى واجهة الكنيسة : «الوطن عارف بجميل عظماء الرجال». وكان مدفونًا فيها ديكارت وفولتير وروسو.
ثم ما لبث أن انكشف ما كان خافيًا، فكفرت به الجماهير، وأمطرته باللعنات، وأُخرج رفاته من مقبرة العظماء، ليدفن حيث ألقت ؛ ويقول عنه «لامارتين» :
«هذا المهيج الجماهيرى العظيم لم يكن أكثر من رجل من رجال البلاط المذعورين ؛ الذين يحتمون بالعرش وهم لا يزالون يتشدقون بكلمات رهيبه مثل كلمة «الأمة» وكلمة «الحرية»، رجل جعله دوره الذى أداه يصاب فى روحه بكل صغار البلاط. وبكل أفكارهم المغرورة. إن عبقريته تدعو للرثاء حين نراه يصارع المستحيل. لقد كان «ميرابو» أقوى رجال عصره، ولكن أقوى الرجال لا يبدو أكثر من مجنون إذا ما صارع عناصر الطبيعة فى هياجها. إن الانهيار لا يكون جليلاً إلاَّ إذا سقط المنهار مع فضيلته ».
www. ragai2009.com