يدفع الغزو الروسي لأوكرانيا أوروبا نحو حقبة جديدة من الإنفاق غير المقيد، في ظل تسارع المنطقة للاستجابة لتغير النظام الجيوسياسي.
قد يتحوّل العام الذي كان يستعد فيه الاتحاد الأوروبي لإعادة تقييم ميزانيات الطوارئ السخية التي أججها الوباء، إلى فصل آخر من تقبّل المنطقة للمالية العامة الأقل تقييداً والديون المتزايدة. إذ ستكون الأموال الآن مطلوبة لكل شيء من تعزيز القدرات العسكرية إلى إمدادات الطاقة البديلة.
وأطلق قرار ألمانيا بتخصيص 100 مليار يورو (112 مليار دولار) للدفاع عن هذا التحول، الذي يعد بمثابة ثورة في بلدٍ كان يرتبط في السابق بموقف عسكري خجول وبعيد عن الاقتراض.
ويضيء هذا الطريق أمام منطقة تحتاج إلى الأمن والاستقرار بشكل متزايد، إذ من المرجح الآن أن تطغى على التحفظ المالي.
ويشير تزايد الإنفاق في أكبر اقتصاد في أوروبا- وفي أماكن أخرى- إلى احتمالية توفير تحفيز حمائي تجاه تصاعد أي تهديد من الحرب. قد يرسم مثل هذا التحدي الذي يمثله الصراع أيضاً معايير إرشادات الميزانية الجديدة للاتحاد الأوروبي المقرر وضعها هذا الأسبوع.
حقبة من الإنفاق غير المقيد
يقول هولغر شميدنغ، كبير الاقتصاديين في فرع لندن لـ”بنك بيرنبرج”: “لم يعد باستطاعة ألمانيا أن تقف وتعمل كجهة ضبط مالية، في حين تنشئ صندوقاً خاصاً تلو الآخر… لن تتغير القواعد المالية الأوروبية نفسها، لكن ستتغير الطريقة التي يتم تنفيذها بها… فقد تغيّرت الأولويات”.
على هذه الخلفية، ستكشف المفوضية الأوروبية يوم الأربعاء عن توجيهات الميزانية لعام 2023، والتي تهدف إلى معالجة تضخم الديون الوطنية من خلال إعادة تنشيط القيود على الإنفاق التي عُلّقت في عام 2020 بسبب الوباء.
قد تتضاءل مثل هذه الطموحات الآن. فبدلاً من القيود الصارمة؛ تريد المفوضية تقديم توصيات نوعية للحكومات، وفقاً لمسؤول في الاتحاد الأوروبي رفض الكشف عن هويته بسبب سرية المناقشات. الذي قال أيضاً، إنَّ حالة عدم اليقين المتزايدة قد تفرض تعليق القواعد لمدة عام آخر، وهو الأمر الذي لم يتم النظر فيه الآن، لكنَّه يمكن أن يصبح خياراً بعد إعادة التقييم في مايو.
ومن شأن ذلك أن يشتري بعض من الوقت، في حين تناقش البلدان النظام المالي، المعروف باسم “ميثاق الاستقرار والنمو”. يمكن أن تتضمن إحدى النتائج المحتملة استحداث استثناء للإنفاق الصديق للمناخ، على الرغم من أنَّ دولاً مثل فرنسا وبولندا ورومانيا تريد أيضاً معاملة خاصة بشأن الدفاع.
ليس من الواضح فيما إذا كانت ألمانيا ستدعم ذلك، على الرغم من أنَّ تحول موقف المستشار أولاف شولتس بات مؤكداً. إذ اقترح يوم الأحد دفع الإنفاق العسكري فوق هدف الناتو البالغ 2% من إجمالي الناتج المحلي. وهو أمر مهم في بلد أعاق إرثه من الحرب العالمية الثانية تعزيز قوته العسكرية، ويعتز الناخبون فيه بالاحتراز المالي.
عالم الطوارئ
تقول فيليبا سيغل-غلوكنر، المسئولة السابقة في وزارة المالية، ومديرة مركز أبحاث “معهد المستقبل للتمويل الكلي” الذي يقع مقره في برلين: “يبدو أنَّ هناك عالمين الآن: العالم العادي الذي لا يزال فيه ادخار المال هو الملك، وعالم الطوارئ الذي يكون الإنفاق الكبير فيه جزءاً من الاستجابة القوية.. سيستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى يعود العالم إلى طبيعته”.
تحذو دول أخرى حذو ألمانيا. ففي هولندا – إحدى الدول التي يطلق عليها في أوروبا اللقب المعروف بـ (المقتصدين) التي تنصح عادةً بالاحتراز المالي – تعهدت وزير الدفاع كاجسا أولونغرن يوم الإثنين بتقديم خطة لزيادة الإنفاق لتصل إلى معايير “الناتو” من حوالي 1.4% حالياً.
يقول زولت دارفاس، الزميل البارز في مركز أبحاث “بروغل” ومقره بروكسل: “ستعيد العديد من الدول الأعضاء النظر في الإنفاق العسكري”.
شهدت الأزمة الحالية أيضاً تحركاً إقليمياً في مجال الدفاع. فقد وافقت حكومات الاتحاد الأوروبي على شحن الإمدادات العسكرية إلى كييف، في حين أنَّ “مرفق السلام الأوروبي” سيشتري أسلحة بـ 450 مليون يورو لأوكرانيا، وهي عملية شراء جماعية هي الأولى من نوعها.
في يوم الثلاثاء، قال رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، إنَّه يفضّل أن يكون مثل هذا الإنفاق على مستوى الاتحاد الأوروبي. يمكن أن تكون إحدى الطرق للقيام بذلك من خلال “صندوق التعافي” الذي تم إنشاؤه لإعادة بناء الاقتصادات بعد الوباء.
قال سيباستيان دوليان، مدير “معهد الاقتصاد الكلي وأبحاث دورة الأعمال” لسياسات الاقتصاد الكلي الذي يقع مقره في ألمانيا: “ما هو واضح للجميع هو أنَّنا بحاجة إلى إنفاق المزيد على الدفاع… لطالما فَضَّل الاتحاد الأوروبي البناء على الأدوات الموجودة… سيكون من المنطقي إعادة تفعيل صندوق (الجيل القادم للاتحاد الأوروبي) بشكل كامل لتمويل مشاريع الدفاع المشتركة، أو ترقيات شبكة الطاقة”.
الطاقة والدعم
يمكن أن يبشر تحرك شولتس لتسريع بناء محطتين للغاز الطبيعي المسال بمزيد من الاستثمار في هذا المجال ومجالات أخرى، ربما نحو ما يسمى باتحاد الطاقة الذي يتوق إليه مسؤولو الاتحاد الأوروبي. قد يكون التكامل المادي بشكل أفضل عاملاً مساعداً؛ إذ تمتلك إسبانيا حوالي ثلث قدرة الكتلة على استيراد الغاز الطبيعي المسال، لكنَّ روابط النقل إلى بقية القارة محدودة.
بصرف النظر عن البنية التحتية للدفاع والطاقة؛ فمن الممكن أن يؤدي الصراع إلى إنفاق آخر. ففي هذا الأسبوع، أشار محافظ “بنك البرتغال” ماريو سينتينو، وزير المالية السابق الذي كان يترأس اجتماعات زملائه في منطقة اليورو، إلى أنَّ الحكومات قد تحتاج إلى حماية المواطنين من المزيد من التضخم الذي تغذّيه تكاليف الوقود.
أوضح سينتينو خلال مقابلة: “إذا لزم الأمر؛ ينبغي إنشاء آليات لدعم الدخل على المستوى المالي لمواجهة تلك الصعوبات”.
وفي المستقبل، هناك تكلفة مالية أخرى يمكن أن يواجهها الاتحاد الأوروبي إذا انتهى الصراع بطريقة ما دون ضم أوكرانيا إلى روسيا. إذا نجح طلبها الذي قدّمته يوم الإثنين للانضمام إلى الكتلة؛ فقد يلزم تخصيص برنامج إنفاق كامل لإعادة بناء البلاد.
مهما كانت الطريقة التي سيتكشّف فيها الوضع؛ فإنَّ التغيير في المنظور الذي بشّرت به ألمانيا يبدو الآن بشكل متزايد أنَّه تغير دائم.
أعلن شولتس أمام “البوندستاج الألماني”يوم الأحد: “بغزو أوكرانيا؛ نحن في حقبة جديدة… هذا الواقع الجديد يتطلب استجابة واضحة… وقد قدّمناها”.