فى رائعته «صفحات من تاريخ مصر»، يتحدث الأستاذ يحيى حقى عـن ثورة 1919، بأنها فتحت صفحة جديدة فى حياة مصر طوت أشياءً فرحنا باختفائها «كالنزاع الطائفى» وأشياء أخرى عزّ علينا طيها وحزت فى قلوبنا، ولكننا قبلنا هذا الطى بدون مناقشة بدافع التحمس للثورة، وعذرها بأنه لا وقت لديها لتنتقى، ولكنه يتوقف ليضرب المثل بما جرى لمحمد فريد، وعبارة «ما جرى» موجـودة فيما يقول فى كل البكائيات الشعبية.
إذا كان مسلك الثورة الوطنية مع الزعيم الوطنى محمد فريد، صاحب هذا السجل العريض الحافل الذى مررنا بموجز لبعضه، والذى تنازل عن الجاه والثراء وقَبِل الفقر وتحمّل السجن والنفى من أجل وطنه دافع عن قضيته خير دفاع، وتمسك بحقوقها جميعًا، ورفض أن تكون محل مساومة، لا مساس ولو ببذرة منها،إنه يعيش فى الغربة يحلم ويأمل أن يجىء اليوم الذى تنتفض فيه مصر مطالبةً بحقوقها، وأخيرًا جاء هذا اليوم، فإذا بأمله ينهدم ساعة أن يتجسد، فتتجاهله الثورة تجاهلاً تامًّا، بل الأعجب والأدهى أنه مدّ إليها يده مهنئًا ومؤيدًا، فتركتها معلقةً فى الهواء، مع أنها قبلت بعض أعضاء الحزب الوطنى، فكيف بزعيمه ؟! هل بعد هذا عقوق ؟!
العقوق أشد إيلامًا إذا جاء من الصديق الذى خدمته، بيد أنه أشد إيلامًا ووجعًا إذا جاء من الوطن الذى ضحيت من أجله. وليس المقصود نسبة الجحود إلى الوطن، فالوطن كيان رمزى، يعبر عن إرادته ويجسدها سياسةً وأفعالاً القائمون على سدة الحكم أو الأمر فيه، وإنما قصد الأستاذ يحيى حقى بذلك الجحود قيادة ثورة 1919 تحديدًا، لذلك يضيف أنه إلى اليوم يتصور «مرارة» محمد فريد فى الغربة بعد الثورة، إذا ارتجف عيانًا من رجفة البرد فلا شك أنه كان يرتجف كتيمى من الشعور بالوحدة، بوقوفه كاللوح كما تقول العامة، أو كالمتفرج وموكب الثورة يمر أمامه، دون أن يتذكره أو يلتفت إليه أحد، ودون أن يفكر أحد فى أنهم فى حاجة إليه، أو يتذكر على الأقل أنه فى منفى اضطرارى اضطره إليه محاكمة جائرة وحكم جائر، فيعلن أن وطنه يرحب بعودته، بل إن أحدًا لم يلق عليه السلام، فإذا كان انضمامه إلى ركب الثورة غير متاح فعلى الأقل يُطلب منه الرأى والنصيحة، فإن له خبرة عريضة بالقضية، وبالموقف الدولى، وله اتصالات كثيرة بالأحزاب وأقطاب السياسة فى أوروبا، حتى هذا وما دونه لم يحدث؛ يتصوره الأستاذ يحيى حقى يسأل نفسه: ما ذنبى؟ أين تقصيرى؟ ألم يبق عندى ذرة من نفع؟ هل مت وأنا حىّ؟. لو كنت مكانه يقول يحيى حقى لتحطمت، ولكن قدر له أن يعيش شهورًا ليتجرع كأس المرارة حتى الثمالة بعيدًا عن وطنه الذى ضحّى بكل شىء من أجله!
ويضيف يحيى حقى: «حرصت على أن أزور حجرته الصغيرة فى «خان سوريا»، كنت أريد أن أتشمم جو الوحدة والفقر الذى كان يعيش فيه، إلى اليوم أتصور بألم مشهد وفاته فى الغربة، وحيدًا، منقطعًا، فقيرًا، مهملاً، منبوذًا، ليس بجانبه أحد من أهله، وقبل أن أتركه أقول إنه حتى بعد وفاته لم يكن نقل جثمانه إلى مصر من عمل الشعب بل من تبرع تاجر فى طنطا، كأنما لابد للعقوق أن يمضى إلى غايته، أن يلاحقه حيًّا وميتا».
www. ragai2009.com