استحضار مفهوم الردع فى إدارة الرئيس بوتين لأزمة أوكرانيا، يستدعى ذات المفهوم لإدارة الرئيس السيسى لأزمة إثيوبيا، ليجعلنا نحاول التفرقة بين ردع بوتين وردع السيسى من حيث؛ المنهجية وشكل الردع والآثار المترتبة على التلويح بالقوة والآثار المترتبة والأطراف المتأثرة.
مفهوم الردع عموما؛ هو تفاعل خصمين يمتلكان قدرات متكافئة نسبيا، ولكل طرف إيذاء الآخر بذات المستوى، ولكنهما يحاولان التعقل بحسابات الخسارة والمكسب، ليتجنب كلاهما الحرب المتوقعة، بالمحافظة على الاستعدادات بحالة تأهب، وبصورة تقنع الآخر بأن تكلفة أى هجوم ستكون أكبر من أى مكسب يهدفه.
أول دروس الردع؛ تلويح أمريكا بالخيار النووى ضد نشر السوفيت صواريخ نووية بكوبا ببداية الستينات، ومنه نشأ مبدأ جدية التلويح باستخدام القوة دون تنفيذها وفقا لحساباتها، بتوفير كم بشرى موظف للقتال، قوة التسليح، احتراف المناورة الميدانية والسياسية.
ردع بوتين بأزمة أوكرانيا، مؤسس على التفاعل بين قدرات روسيا وقدرات المعسكر الغربى وحلف الناتو وليس أوكرانيا، فبالحسابات التكافؤ معدوم بين البلدين، ومتكافئ بين القدرتين، لأنه بالحسابات اجتياح أوكرانيا مسألة قرار حرب لا يستغرق تنفيذه أياما معدودة، ولكن أثره أجراسا لحرب عالمية ثالثة، أو بالأقل تصعيد عسكرى عالمى يمتد لاستثمارات طريق الحرير الصينى حليف روسيا، وتوريط الحلف الأوراسى وتعطيل استراتيجية تحزيم تجارة العالم! من جهة أخرى، سيكون إنهاكا غير مطلوب لاستراتيجية قمة مجموعة السبع يونيو 2021 بصندوق البنى التحتية العالمى، كبديل أكثر إنصافا لطريق الحرير، بتطوير البنى التحتية للدول النامية كمشروع (لإعادة بناء العالم بشكل أفضل)! بما أثمر توصيات قمة مجموعة السبع بعقوبة الصين وتحذيرات لروسيا، لتأتى عودة أمريكا للملعب برعاية “ماما بريطانيا” ومناورات حلف الناتو فى البحر الأسود ومحاولات استقطاب أوكرانيا لدخول الناتو والاتحاد الأوربى، نوعا من سيناريوها تطبيق الاستراتيجية، بتوظيف أمين مخزن روسيا وحديقتها الخلفية!
ورغم تجذر الصراع الروسى الأوكرانى تاريخيا، وبداية سياسة تقليم الأظافر منذ 2014، فتوقيت التصعيد الروسى مؤخرا يتناسب مع سيناريوهات قمة مجموعة السبع 2021 ومطامع الناتو، فأتى شكل الردع عسكريا مباشرا بحت، بمنهجية أمريكا كأزمة خليج الخنازير المنتهية بانسحاب الاتحاد السوفيتى وتفكيك الصواريخ الكوبية.
الآن 2022 تستخدم روسيا الردع العسكرى تفعيلا لحق تاريخى ظاهريا، وباطنيا تقاوم ردعا غربيا بتشذيب الغرب شوكة أوكرانيا بخاصرتها! لتعود للحياة مقولة اندريا بيليه “الحروب صراع بين غيلان العالم لاقتسام لحوم أغنامه”! ردع بوتين تفوح منه نار الحرب والموت وتجريف التنمية الأوكرانية، وتحضير العالم لأزمات بالقمح والغاز ومليارات للغاز القطرى وتمويلات جديدة لأصابع الإرهاب بالعالم، وتعطيل لطريق الحرير وصندوق البنى التحتية العالمى معا! الموقف الروسى له تداعيات وآثار ستشمل العالم أجمع لا ترتضيها رُفات الأمير يوروسلاف الحكيم، أساس مطلب روسيا لتبعية أوكرانيا لها!
منهجية وشكل ردع الرئيس السيسى بأزمة إثيوبيا أخطر وأعمق! فمحور التهديد سد النهضة القنبلة المائية الإثيوبية الموقوتة، المهددة لوجود السودان وقاسم من مصر ثم تعطيشها، فتركيعها بسياسة الحنفية، فتجريف تنميتها ووقف نموها، وتصديها لدور عربى وأفريقى حرج! النتيجة تحريك مصر من موقع القيادة للتبعية، لإفقادها مميزاتها الجيوسياسية، وتشريد كتلتها البشرية وتوريطها بمعادلة حفظ البقاء، لا القيادة والتنمية والدعم الأفريقى.
يدعم إثيوبيا لاعبان دوليان مباشران وخفيان، وتم تصميم قوة الردع الإثيوبى بشبكات حماية أمنية واستثمارات ضخمة وإدارة حق الدولة لشئونها الداخلية، بما يجعل أى محاولة مصرية لوقف الخطر أو هدم السد، نوعا من الاعتداء المسلح المبيح رده عسكريا، لتوريط مصر بحرب محدودة محسوبة، تعطل تنميتها وتقلم طموحها وتعيدها للمربع1، وتفقد أفريقيا نافذة شمس وهواء تحمل مسئوليتها مصر لإخوانها الأفارقة.. خطة تصعيد إثيوبيا بملء سد النهضة ردعا استراتيجيا لإخضاع مصر لتعديل شروط الانتفاع بماء النيل وإلزامها بمده لجيران يحلمون بقطراته!
وإذا كانت أوكرانيا أمين مخزن الموارد الطبيعية لروسيا ومنفذها على البحر الأسود ومعبر غازها لأوروبا، كأحد الأدوات الرئيسية للاستقرار الروسى بلعبة التوازنات الدولية، وتحولها لشوكة تُقلم بمناورات عسكرية وأبواق الحرب، فسد النهضة كقنبلة مائية تهديد لوجود لا لمصالح! وكان الأوقع لمصر تصميم قوة ردع عسكرية تترسم الاستراتيجية الروسية، ولكن ردع السيسى التزم سبيلا مختلفا تماما!
فما قامت به مصر منذ 2014 تطويرا خارقا لمعنى الردع الاستراتيجي! فاستثمارات مصر بالبنية التحتية والتسليح والتنمية، حقيقتها استثمارات رادعة لحزمة الطامعين، بسطوع دولة جديدة تبزغ بصورة جادة، لا تحتمل فقط المقامرة بتنمية حقيقية وميراث قدرى، بل تتقدم بطموح يتجاوز جعل المستقبل خيرا من الماضى، لأن نحيا لنستمتع بهذا المستقبل.
تطور الردع المصرى ليتجاوز أزمة إثيوبيا، ويلوح باستخدام إمكانيات دولة حديثة حققت فى ٦ سنوات ما فاتها من 60 سنة! فالطرف الآخر بالردع هنا ليس إثيوبيا فقط؟ ولكنه منظومة العالم الجديد برمته وهذا ليس تمسحا بنظرية المؤامرة ولكن صليب الآلام المصرى موجع ويشد أوصالها من 4 جهات! ليبيا غربا / إثيوبيا جنوبا / الجهاديون بسيناء شرقا / تركيا شمالا! ليأتى ردع السيسى بصورة التنمية الشاملة للقدرات العسكرية، فالتفوق المصرى لرفع صليب الآلام غالب طبقا لمفهوم الردع لتلتزم مصر الردع القانونى مع اثيوبيا حتى الأمم المتحدة، أما القوة العسكرية فتطورت بصورة ترعب الظالمين والجاحدين! .
وقد أثبت بحزمة مقالات مسبقة، الحق القانونى لمصر بالدفاع الشرعى ضد سد النهضة كقنبلة مائية طبقا لميثاق الأمم المتحدة، وكان الإعجاز بمهارة الاستراتيجية المصرية بعد تأمين حقها بالدفاع الشرعى واستخدام القوة، هو عدم تدمير السد، كحالة اعتداء مسلح يتجاوز الدفاع الشرعي! لتفعيل منظومة متكاملة، تجبر إثيوبيا لتنفيذه طبقا لمصالح الثلاث دول تحت رقابة دولية، فيتحقق الردع بالتنمية بتغطية دولية وسياسية بالدفاع الشرعى وليس تجاوزه، بالاعتداء المسلح على دولة إثيوبيا، وهذا ما نجح فيه فعلا ردع السيسى بدون طلقة واحدة أو حتى الوصول للتهديد باستخدام القوة.
إذا كان ردع بوتين ظاهره حقا تاريخيا محل منازعة وباطنه مصالح اقتصادية لا تهدد وجوده، فردع السيسى ظاهره حق وجود دول وباطنه مصر جديدة تشارك العالم تمنياته بمستقبل أكثر إمانا.
* محامى وكاتب مصرى