الصورة الذهنية هى توصيفنا لشخص أو كيان أو أداة، قد تكون ثمرة تجربة قصيرة أم ممتدة، وقد تكون بنت أفكار مسبقة، ولا أقصد طبعًا أن القراءة المبنية على تجربة دائمًا صحيحة، وأن الأفكار المسبقة دائمًا خطأ، فلا يوجد ما يضمن أن تجربتنا مع ظاهرة أو فرد دالة على جوهر من وما نتعامل معه، ولا يوجد ما يضمن أن قراءتنا سليمة… وفى أحوال كثيرة تكون الأفكار المسبقة سليمة… كلنا قررنا مع شخص ما منذ أول لحظة… أثق أو لا أثق فيه،
ولنزيد الأمور تعقيدًا، نقول إن وجود صورة ذهنية خاطئة لا يعنى بالضرورة أن السياسات المترتبة عليها خاطئة، ولا يضمن وجود تصور سليم سلامة السياسات المبنية عليه، من ناحية القدرة على التحليل تفترض مهارات تختلف عن مهارات وفن اتخاذ القرار، ومن ناحية أخرى قد تتخذ قرارًا يكون سليمًا لأسبابٍ لا علاقة لها بتلك التى دفعتك إلى اتخاذه. لا يمكننا مثلًا أن نقول إن كل القرارات التى يتخذها المتبنّى لنظريات المؤامرة خاطئة. قد يتفادى الدخول فى مغامرة عسكرية مثلًا؛ لأنه يتوهم أن وراءها فخًّا نصَبَته قوة من قوى الشر، ويكون قراره هذا سليمًا رغم عدم وجود أى فخ. وفى المقابل لا يشكُّ فرد فى قدرات الرئيس الفرنسى السابق هولاند على تحليل المشاهد السياسية وإستراتيجيات الفُرقاء فى فرنسا بدقة وعمق مذهلين، وهذا لا يمنع أنه لم يوفَّق فى أغلب قراراته. كان يمتلك مهاراتِ معلِّق سياسى لا مهارات قائد.
الصورة الذهنية موجودة؛ شئنا أم أبينا، لا يمكن التخلص منها إلا بإحلال صورة أخرى محلّها، وهى تلعب دورًا هامًّا فى قراراتنا وسياساتنا، فهى المفتاح الذى نقرأ به الوضع الذى نتعامل معه، وقد تكون خير العون والنصير، وقد تُعمينا إن كانت غير صحيحة. رغم كل التعقيدات التى أشرنا إليها، ورغم عدم وجود علاقة سببية حتمية بين سلامة الصورة الذهنية وسلامة القرار، يبقى أن تصورًا سليمًا يسهِّل الأمور. ولن نتطرق، اليوم، إلى قضية إمكانيته فى كل الأحوال أو بعضها.
أبدأ بمثالٍ كاد يَحدث لولا ستر ربنا، فى أزمة الصواريخ السوفيتية التى تم نشرها فى كوبا فى أول ستينيات القرن الماضى أرسلت موسكو جنودًا، ومعهم ملابس شتوية (الأزمة بدأت فى أكتوبر 62) تكون ضرورية لمواجهة شتاء روسيا القارص، ولكنها تشكل عبئًا ثقيلًا فى دولة مناخها معتدل. فخُيّر الجنود بين لبس صيفى لا يحمى من برودة الشتاء ولبس شتوى يشلّهم تمامًا، هذا حدث فعلًا ولكن الأمريكيين لم يعلموا بهذا.
يقول العسكريون الأمريكيون: لو كنا علِمنا لَدار بين الخبراء نقاش حاد، هل وجود هذا اللبس دليل على غباء البيروقراطية السوفيتية وعلى وجود خللٍ ما فى التخطيط؟ أم هو مؤشر على قيامهم بالتحضير لعملية إنزال فى أعالى جبال أمريكية؟ والأرجح أن الغلبة ستكون لأنصار الرأى الثانى؛ فدولة عظمى لها مخابرات عتيدة وباع طويل فى التخطيط الدقيق لا ترتكب أخطاء تافهة، وأترك القارئ يتخيل تبِعات مثل هذا الخطأ فى التصور وتأثيره على السلوك الأمريكى وعلى إدارة الأزمة.
يسودُ فى أوساطنا عددٌ مهول من التصورات الخاطئة حول الذات والآخر، ولا أريد إحصاءها؛ لأننى لست مؤهلًا لهذا إلا فى بعض المجالات، منها ما يحدث فى الغرب، يمكن القول إننا بصفة عامة نُحسن الظن برشادة قراراتهم، ونتشكك كثيرًا فى سلامة نواياهم. نعتقد مثلًا أن العمل المؤسسى فى تلك الدول يقلل هامش خطأ القائد وتأثير الأهواء والأيديولوجيات على القرار، ويطلق العنان للتفكير الخلّاق أو التفكير العلمى. نعرف مهاراتهم وقدراتهم فى مجال جمع المعلومات، ونعتقد خطأً أنهم يحسنون قراءتها، نعتقد أن السرّيّة تحكم دائمًا تحركاتهم وأن ما يظهر على السطح مضلل… إلخ.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية