هل تتوافق قواعد الاقتصاد الحر مع إنسانية المواطن؟ وهل إنماء الاقتصاد الحر يكون على حساب إنسانيته؟ وهل بائتمان الدولة للخدمات العامة ما ينمى هذه الإنسانية؟ وهل بفتح الخدمات العامة للاقتصاد الحر، نفتئت على تأمين الدولة لها، بتعريض المواطن لمخاطر الاقتصاد الحر؛ كالاحتكار والتقلب الاقتصادى وزيادة البطالة، وعدم شرعية التمويل لتعظيم الأرباح، وتفاقم عدم المساواة الاجتماعية فيزيد الأغنياء غني، والفقراء فقرا! وهل كانت نظرة الدولة لإدارتها للمنظومة الاقتصادية – بمرحلة اقتصاد الحرب – اعتبارا لإنسانية المواطن من المساواة وعدالة التوزيع والاحترام والأخوة؟ وهى قيم واعتبارات إنسانية كثيرا ما تصادف معاناة بتجارب الاقتصاد الحر الصرف.
الموضوع قمة التشابك والحساسية! فهناك قرارات وسياسات عامة حرجة ولكنها ممتعة، لأنها تشعرنا بالعدالة ولكنها تحتاج الموضوعية والتطوير! كالتوظيف الحكومى ودور الدولة بإدارة الخدمات والدور المدنى للقوات المسلحة. فملكية الدولة لوسائل الإنتاج وأداء الخدمات، تدغدغ مشاعر الأمان بكثير منا، وبمناخ عام متحسس للقطاع الخاص ولرجال الأعمال، يرى البعض المصانع والمزارع الحكومية الحل لمواجهة احتكار رجال الأعمال وارتفاع الأسعار، متجاهلا أهمية الدافع الشخصى للإنتاج والإبداع والمخاطرة والمنافسة، مقابل نقص قدرات الجهاز الوظيفى حكومى لاستمرار نتائج تجربة التأميم بالستينات.
حتى عند إطلاق برامج الخصخصة وبزوغ طبقة رجال الأعمال المباركيين، مُسخت الخصخصة باستئساد هذه الطبقة باستحواذها على زخم من شركات القطاع العام، لتبيع أراضيها وتسرح عمالها، وتمهد لعهد جديد يعتمد الوساطة والريع، مقابل انحسار استثمارات القطاع الخاص بمشاريع التنمية والصناعة الحقيقية والبنية التحتية.
من هنا أعيد النظر بدور القطاع الخاص لحفظ مصالح المواطن وإنسانيته، فبدل استهداف الإنماء ببوادر الاقتصاد الحر وقتها، نشأت فجوات اجتماعية وطبقات مستفيدة وتردى بالخدمات، لتعود الدولة لتتصدى لمحاور اقتصادية جادة لخدمة المواطن، بما استصوب معه الدور الشامل للمؤسسة العسكرية، لتكون عرابة إنشاء الطرق وبناء الوحدات السكنية واستصلاح الأراضى ودعم تغذية وصحة المواطن، وهى حالة واقعية استدعت الجيش باعتباره مؤسسة محصنة ضد التسيب والفساد، ولكن بذات الوقت ضاعف العبء على كاهل الجيش، المفعم بالأعباء والتحديات الداخلية والخارجية.
من هنا لزمت النظرة لمثلث الكيانات الاقتصادية بتدويره للعجلة الاقتصادية بمصر، وأثرها على الحياة العادية للمواطن وإنسانيته المرهونة بالظروف وتبادل ضغوط زوايا المثلث، المكون من منتجات وخدمات كيانات الحكومة والقطاع العام / المؤسسة العسكرية / القطاع الخاص المصري. تدور العجلة الاقتصادية المصرية بتروس التصنيع، المنتجات، الخدمات، الامن والتأمين، ولدقة التعبير فسنون هذه التروس هم موظفو كيانات المثلث معا! الفكرة أن صفة المواطن متلقى المنتج أو الخدمة هو ذاته مقدمها والمستفيد منها بمؤسسات المثلث معا!
الحرج بقدرات وتعليم وتدريب وكفاءة وتطوير وفهم وتعاون مقدمى الخدمة بكيانات المثلث، كمتعاملين سوقيا بالتبادل! فموظف السجل المدنى هو راكب القطار، وسائق الأتوبيس العام هو زبون الجمعية الاستهلاكية، والمدير بالجوازات هو المريض بمستشفى حكومي، وموظفة التأمينات هى والدة طفل التعليم الحكومي، ومذيع التلفزيون هو عميل شركة الغاز والكهرباء! الجميع يشترك بالإنسانية، وخدمات ما يحصلون عليه فعليا، كثيرا ما يكون غير إنسانى من حيث قيم الزمن، الجودة، الدقة، الفعالية، الاحترام، والمساواة، وهى قيم تحرص على مداعبتها وتطورها كيانات الاقتصاد الحر، لشراسة المنافسة باستهداف رضا العميل، لمزيد من حصة السوق وبالتالى الأرباح.
بالمقابل فائتمان الدولة على أدوات الإنتاج والخدمات العامة، يفترض اعتبارها كرامة المواطن وعيشه حياة كريمة، تحترم وجوده ووقته وعمله ودخله وحقه فى الحياة بمنظومة إيجابية، يحصل فيها على خدمات جيدة، منضبطة، قابلة للقياس والتقييم والمحاسبة، وهى أبسط حقوقه الإنسانية بحياة كريمة.
المناداة بتطبيق آليات الاقتصاد الحر مطلقا، بقدر توفيرها لزيادة امان الملكية الخاصة وكفاءة السوق، وازدهار الأسواق المالية وحرية المشاركة والابتكار وقيادة العملاء لخيارات نجاح وفشل المقدم ، وتنوع السلع بأسعار منخفضة، نتيجة منافسة توفرها بأحسن جودة وأفضل الأسعار، بقدر خلقها لأزمات وقسوة آلياته أحيانا مع إنسانية مقدمى الخدمات والمنتجات! فالاحتكار يحطم عدالة التوزيع والمساواة، والتلاعب بالأسعار وغياب الرقابة يدعم طحن محدودى التمويل، والسعى للربح المطلق وتعظيمه يبرر الجرائم الاقتصادية إلخ. وهو ما اضطر مع الاقتصاد الحر لاستحداث التنمية المستدامة والمسؤولية الاجتماعية للشركات، لمحاولة تدارك الإنسانيات المهضومة فى صراع العرض والطلب والربح المطلق.
مدار ذلك يوزن بزمن دوران عجلة الاقتصاد! هل هو زمن حروب الاقتصاد بالظروف العادية للدولة، ام هو زمن اقتصاد الحرب، المحتاج لتطوير مركزية دور الدولة مرحليًّا بصنع القرار الاقتصادي، ودعم القطاع الخاص لاستراتيجيتها للاستثمار الرأسمالى لتأمين مرور الوطن من حال لحال؟ هنا تبرز فكرة “الاقتصاد الاجتماعي” المتوسط بين الاقتصاد الرأسمالى والاشتراكي، كتدبير للدولة من خلاله تحقق الموازنة والمساواة بين أفراد الوطن، وإعطاء الطبقات المتوسطة والفقيرة حقوقها، حتى تمر فترة زمن الحرب، لتتهيأ السوق لاقتصاد حر مصري، يحقق مزاياه ويستحدث ضوابط لكبح عيوبه تدريجيا.
وبين زمن حرب الاقتصاد واقتصاد الحرب، وصراع زوايا مثلث الكيانات الاقتصادية بمصر، تظهر حتمية وجود صيغة تعايشية عادلة (ليست لحساب تغول القطاع الخاص أو استئساد الكيانات الحكومية)، ولكن لحساب حق المواطن المصرى بحياة كريمة، بإنماء إنسانية الاقتصاد الحر.. المصري!
أحد مظاهر استحداث معامل (إنماء إنسانية الاقتصاد الحر) ورد بورقة بحثية للمصرفية د. داليا عبد القادر بعنوان (أنسنة التمويل)، لتطوير مفهوم التمويل ببعده الرقمى والكمي، ليستوعب قيما أخرى غير مادية، باستبدال مفهوم الربح والخسارة بمعيار القيمة والخسارة، مما يساعد على تعميق الترابط والتأثير المتبادل بين المال والبيئة والمجتمع ونظم الحوكمة، وهو ما يمكن ترجمته سريعا بتطوير منظومة الخدمات العامة بتقديم الدولة، فتجتمع القيم المادية المالية بالقيم غير المادية، لتثمر خدمات حقيقية، تحتم فصل دور الدولة كمقدم للخدمات العامة ومنفذها ورقيبها ومحاسبها، وإلا فكيف يتوقع إنماء إنسانية الخدمات المقدمة للمواطن من المصدر والقاضى والجلاد معا؟
إن عقد المصالحة بين مثلث الكيانات الاقتصادية المصرية بفصل مقدم الخدمة عن منفذها، فى صورة إطلاق وحدات الخدمات الاقتصادية التنافسية، بالشراكة بين القطاعين الخاص والعام، كإحدى آليات الاقتصاد الاجتماعي، ما سيدعم تطوير إنماء إنسانيات الاقتصاد الحر المصرى الجديد، بصورة احترافية لتقديم خدمات مطورة لخدمة المواطن، فتحترم إنسانيته، وتكثف نمو إنتاجيته، وتمتعه بحياة كريمة، وهو ما سنعرض آلية تحقيقه لاحقا.
* محامى وكاتب مصرى