فى المقالتين السابقتين قلنا إن موقع مصر الجغرافى يجعلها حاليًّا معرَّضة لـ المخاطر قادمة من كل اتجاه، شمال وجنوب وشرق وغرب، وقلنا إن الهوية الوطنية فى مصر تصنف مصر فى خانتى الجنوب والشرق، وأن هناك من يصنفنا فى خانة الشمال المستعمِر- بكسر الميم الأخيرةـ ونضيف هنا أن مآل الأحداث والتطورات الاجتماعية جعل مصر دولة تجمع بين القوة والبأس الشديدين، والفقر المدقع، وجعلَنا نواجه وضعًا تصاعدت فيه قوة بعض دول الجوار، ومعها سقف طموحاتها وانهارت فيه بعض دول الأخرى تاركة وضعًا يحمل معه مخاطر من نوع آخر.
تنوع المخاطر يخلق وضعًا شديد التعقيد، تصعب إدارته، وفقر مصر يقيد حركتها من عدة زوايا، فهو باختصار يفرض قيودًا بعضها محمود على اللجوء إلى خيار القوة، ويضعف مصر فى نوع محدد من النزاعات، وهو التسابق على شراء ولاء الميليشيات التى تصول وتجول فى بعض دول الجوار، وبعض الدول التى تهمنا، ومصر بحكم تاريخها وبحكم حكمتها ترفض تمامًا خيار توظيف الميليشيات والحركات التى تتمرد على دول، وهو خيار لا أشكُّ لحظة فى حكمته على المدى الطويل، ولكنه يحدّ من خياراتنا على المدى القصير. وأخيرًا وليس آخرًا فإن فقر مصر يؤثر على البحوث العلمية فيها.
وهناك عامل إضافى يعقّد المسائل؛ وهو أن قطاعات من الرأى العام ترى أنه يتحتم على مصر أن تكون خريطة تحالفاتها وعداواتها وأن يكون مضمون سياساتها مطابقين تمامًا لإملاءات الهوية كما تتصورها الأغلبية، ويعبرون عنها. وإن لم يكن الوضع كذلك- وهو ليس كذلك- تشكك هذه القطاعات فى سياساتنا وتستمع إلى الأطراف المُعادية لها؛ خارجية كانت أم داخلية، وأغلبها كثير السموم.
أتوقف لحظة لأحدد قصدى حتى لا أفهم خطأ.. أنا من المائلين إلى الرأى الذى يقدس الهوية ويرى أن لها فعلًا إملاءات، وأرى أن العالم العربى أسرة كبيرة لكل وحدة منها مصالح قد تُناقض مصالح وحدة غيرها، وأن كوننا ننتمى إلى أسرة واحدة يضع قيودًا على أسلوب إدارة الخلافات، ويحتم سعة صدر الجميع، ولا أشكك لحظة فى وجود روابط ثقافية وسياسية وغيرها بين أبناء الأمة الإسلامية، أو بين أبناء القارة الإفريقية، أو بين أبناء دول المتوسط.
وأعلم ويعلم كل المصريين أننا مختلفون فى تقييم أهمية وقدسية كل رابط من الروابط السابق ذكرها، ولن أدخل فى جدل مع من يختلف معى حول ترتيبى للروابط؛ لأن قصدى مختلف، قصدى أن الأسرة الواحدة تعرف خلافات حادة بين أبنائها، فلكل واحد منهم مصالح ينفرد بها وهى مشروعة تمامًا، وإن تعارضت مع مصالح غيره من أشقائه أو حتى مع مصالح العائلة ككل. وأحيانًا قد يكون التهديد الأكبر لهذه المصالح آتيًا من شقيق أو من قريب، وليس من غريب، وفى هذه الأحوال لا يتردد أحد الأشقاء فى الذهاب إلى محامٍ ليس من العائلة، أو إلى الشرطة إن تفاقم الأمر.
هذه الجمل الاعتراضية تمهيد لما يلى. لو قلت إن أهم مصادر الخطر على المصالح المصرية- فى رأيي- آتية من إثيوبيا ومن تركيا ومن بعض الحركات فى دول وأراضى الجوار، فإننى لا أقول هذا للتشكيك فى روابط التاريخ والثقافة واللغة والدين، أقول ذلك لأنني- منذ بداية تشكيل وعيي- أرى دولًا وكيانات تهدد وتعتدى على المصالح المصرية وتحاول جرّ مصر إلى طرق خطرة ولا لزوم لها، وتبثّ خطابًا يطالبنا بالتساهل باسم الروابط، أو يرى فى الدفاع عن مصالحنا إهانة لقدسية الروابط، بينما نرى سلوك هؤلاء أكبر إهانة لها.
تقديس الدولة المصرية للروابط واضح فى سلوكنا الصبور، الحريص على الإبقاء على شعرة معاوية، المانع للتصعيد من طرفنا، الحريص على عدم جعل المصالحة مستحيلة.