الإمام الطيب والقول الطيب (36)
القرآن الكريم حاكم لا محكوم!
لم يكن ليفوت صاحب تلك النظرة المعتسفة، أن الحقيقة الخالصة والبسيطة التى يعلمها العلماء والمخلصون، أن القرآن الكريم موجَّه للواقع ومؤثر فيه وحاكم عليه، ولم يكن قط محكومًا بغير أمر الله وإرادته.. وأنه لا يقدح أو ينال من ذلك أن تكون آية أو آيات قد تزامن تنزيلها مع حادثة أو مناسبة أو سؤال، فلم يكن شىء من هذه الحوادث أو الوقائع بعلة فى نزول آية أو آيات من القرآن.
وغنى عن البيان أن لغط النظرية يقلب مبادئ الاستدلال والقواعد والأصول، ويقلب قواعد فهم القرآن رأسًا على عقب، ويصادر الدين ومصدره المقدس مصادرة تؤدى إلى هدم الدين، وغرضها الواضح استبعاد القرآن الحكيم استبعادًا تامًّا فيما أسمته النظرية «مشروع النهضة والتجديد»!!!
وقد حرص فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب على إبداء أنه لا يتهم صاحب «التراث والتجديد»، وإنما سجل فقط ما ظهر له فى قراءة المشروع من تناقض لا مفر من الوقوع فيه لمن يريد أن يُنْسب القرآن الكريم إلى مصدرين معًا: مصدر إلهى ومصدر مادى فى وقت واحد، فإذا لم يرفض الباحث أو ينكر أن القرآن كان وحيًا، فإنه لا سبيل أمامه لرد الأمور إلى مصادر مادية تؤثر فى القرآن وتتحكم فيه والعياذ بالله ولا تتأثر به وتنزل على حكمه الإلهى المقدس!
وبصراحة لا محيص عنها، أستأذن فى إبداء أنه يجب على الباحث أى باحث أن يحدد ابتداءً موقفه من القرآن الكريم، هل هو «بشرى»، أم هو «وحى إلهى»، فإذا سلَّم بأنه وحى إلهى، فلا مفر أمامه من التسليم بتأثير القرآن فى الواقع، وليس التأثر به فى إيراد أحكامه الإلهية!
هذا ولم يشأ الدكتور الطيب أن ينبه إلى القاعدة الأصولية بغير دليل، فاستعرض أقوال أئمة فى الفقه والتفسير، لبيان معيار التفرقة والتمييز فيما يعد من أسباب النزول وما لا يعد كذلك، وليضع أمام القارئ أنواعًا خمسة من الأسباب التى صحت أسانيدها:
النوع الأول: ما يتوقف فهم الآية على العلم بسبب النزول، وهذا هو النوع الوحيد الذى ينطبق عليه أنه سبب نزول، وهو يستلزم من المفسر علمًا صحيحًا به يمَكَّنه من الفهم والتفسير.
النوع الثانى: حوادث نزلت فيها تشريعات وأحكام، لكن هذه الحوادث وأمثالها «لا تبين مجملاً، ولا تخالف مدلول الآية بوجه تخصيص أو تعميم أو تقييد، ولكنها إذا ذُكرت أمثالها، وجدت مساوية لمدلول الآيات النازلة عند حدوثها». وواضح أن هذا النوع ليس سببًا مؤثرًا فى نزول القرآن، وإنما هو داخل ضمن توجيهات الآيات النازلة بعد هذه الحوادث.
النوع الثالث: حوادث متكررة تختص بشخص معين، فتعلن الآية المنزلة شأنها وتبين أحكامها، وتتوعد من يقترفها، ومعظم المفسرين يقولون عند تفسير هذا النوع من
الآيات: «نزلت فى كذا»، يريدون بذلك الإشارة إلى الأحوال التى تشير إليها. وهذا القسم أكثر من ذكره أهل القصص وبعض المفسرين لحكمة لا تفوت.
النوع الرابع: حوادث لم يرتبط بحدوثها نزول شىء من القرآن، ولكن فى آياته السابقة أو اللاحقة ما يناسب معانى هذه الحوادث، «فيقع فى عبارات بعض السلف ما يوهم بأن تلك الحوادث هى المقصودة من تلك الآيات، مع أن المراد أنها مما يدخل فى معنى الآية».
وأورد الإمام الأكبر قول الزركشى فى «البرهان فى علوم القرآن» (1/ 32، 33):
«عرف من عادة الصحابة والتابعين أنه إذا قال نزلت الآية فى كذا، فإنه يريد أن الآية تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب فى نزولها»، وبمثل ذلك قال الجلال السيوطى فى «الإتقان فى علوم القرآن» (1/ 83).
النوع الخامس: حوادث تبين معانى مجملة فى الآية، أو تدفع أمرًا متشابهًا فيها، أو تبين مناسبات الآيات، وهى على كل هذه الأحوال ليست أسبابًا للنزول.
وقد عقب الإمام محمد طاهر بن عاشور، صاحب كتاب التحرير والتنوير، وأحد أئمة تفسير القرآن الكريم فى العصر الحديث عَقَّب على هذه الأقسام فيما أبدى الدكتور الطيب بقوله: «هذا وإن القرآن كتاب جاء لهَدْى أمة والتشريع لها، وهذا الهَدْى قد يكون واردًا قبل الحاجة، وقد يكون مخاطبًا به جميع قوم على وجه الزجر أو الثناء أو غيرهما، وقد يكون مخاطبًا به جميع من يصلح لخطابه، وهو فى جميع ذلك قد جاء بكلياتٍ تشريعية وتهذيبية». (التحرير والتنوير 1/ 50).
www. ragai2009.com