أطلق نجيب محفوظ رائعته ثرثرة فوق النيل عام 1966، وكانت نبوءة لنكسة 67 بصورة رمزية (- والتى أحب دومًا محفوظ استخدامها- كجزء أصيل من نجاح تلك المهزلة –ثرثرة فوق النيل- وخروجها بالشكل التى أصبحت عليه، فيرى البعض المقصود بالعوامة أنها مصر، التى باتت بلا ثوابت أو روابط، بل صارت كيانا تتقاذفه الظروف وعوامل الطبيعة بشكلٍ متطرف، حاملةً فوقها كل من فقدوا تلك الثوابت والقيم والروابط، مما سيودى بهم بالنهاية للتهلكة) ليصدر الفيلم عام 1971، ويعتبره السادات إهانة واضحة وصريحة للفترة الناصرية بكل ما فيها من شخوصٍ وأحداثٍ، خاصة مع (نهايته الحادة والصادمة بجانب عبقريتها، حيث يفصل عم عبده (حارس العوامة) العوامة بعد خروج أنيس وسمارة، عن اليابس، لتُبحر بذلك دون وجهة محددة ودون هدفٍ واضح، تاركةً نفسها لكل المؤثرات والعوامل الخارجية التى من شأنها اقتيادها، حاملةً فوقها قاطنيها الغارقين فى العبث وشئون الكيف، غير مدركين أن العوامة تبحر بهم نحو المجهول.. وربما لا يزالون غير مدركين ذلك)!
اختصرت الرمزية الأدبية لمحفوظ وقتها مصر فى مجتمع العوامة، وجاء إخراج حسين كمال بمشاهد سجلت المكان والزمان والناس، ليقدم الفيلم ترجمة بصرية لنبوءة مكتوبة، وثق فيها الحوار العبقرى للمثرثرين، منهجيات تبرير كل شخصية لفلسفتها فى الانفلات والتغييب والصعلكة الفكرية والسياسية والإعلامية والقانونية.
الآن وبعد 55 سنة من الثرثرة المحفوظية، هل مازالت عوامة مصر تبحر بلا هدف؟ هل للمثرثرين أبناء وأحفاد يكملون مسيرة الكيف الفكري؟ ٥٥ سنة شهدت زخما من التغيرات السياسية والاقتصادية والسكانية، حرب 73 والانفتاح وعودة الإخوان المسلمين والإقطاعية المباركية و25 يناير 2011 و6/30/ 2013، ومصر الجديدة منذ 2014، واكب ذلك إسهال سكانى يلتهم التنمية والاقتصاد ويتغذى بالاستهلاك – فهل عوامة مصر مُسيرة كما هى وسط هذا الزخم، أم أن هناك مصرًا جديدة تحتاج فضفضة وحديث نفس، لا ثرثرة من مملكة الكيف؟
الفن الحقيقى حى، يوثق الواقع برسائل تصل للنبوءات، خاصة عندما يكون الأديب أو المفكر أو الفنان ضميرا لعصره، وينقله بموضوعية وفنية تساهم بلفت نظر أهل صناعة القرار، لمشاركتهم برصد تغيرات نسيج المجتمع، واضعا يدهم على مواطن الخلل ليتداركوها. أزمة ثرثرة نجيب محفوظ، تحققت عندما تحولت لصورة استوعبها السادات جيدا، بما كشفته (وليس إهانته) للفترة الناصرية، لتبقى الثرثرة رمزا لإدراك الحاكم لدور الفن واستمرار وجوده.
وما أحوج مصر 2021 لفضفضة فوق نيلها الآن! فمصر منذ 2014 تتغير بسرعة وقوة وتقدم، مصر كدولة خرجت من العوامة، وطرحت قيادة قوية، وتجديد للبنية التحتية ومشروعات عملاقة، وعاصمة إدارية جديدة ومصادر طاقة ضخمة، وأدوارا سياسية متشعبة ومحاولات اقتصادية مستميتة للوصول لبر الأمان، وسط أعاصير دولية وأنواء داخلية.
لنكون أكثر تحديدا، فمصر الرواية 66 والفيلم 71 اختلفت، بل مصر ما بعدهما تتغير، ولكن العوامة باقية والنيل مازال يجرى والاختلاف فى هوية العوامة! عوامة مصر 66 رمزت لمجتمع متآكل ومدن القناة المقصوفة وإعلام مأجور وطبقة متوسطة متسلقة ومجتمع أعمال انتهازى وسياسة موجهة ومرافق معطلة وفن سطحى وقانون مُسيس وآثار مستخف بها.
مصر 2021 استحدثت قيادة راعت الموروث بعين المستقبل، وأخذت على عاتقها رأب صدع المكان وتأمينه وحمايته فى عصر التحديات، خططها توسعية، طموحها عالمى، تصديها جذرى، ملفاتها متخمة بالأدران والصراعات الجينية، مصر 2021 تشهد دولة ومكان ومجتمع! أما الدولة فتكافح لتصحيح السياسات والمؤسسات والتزام الحوكمة والتخطيط والسير نحو رؤية 2030، وأما المكان؛ فيشهد طفرة عمرانية باستثمارات خيالية ليلحق بركب القرن ويؤهلها للقادم، وأما المجتمع فهو المشكلة! المجتمع هو الناس، السلوكيات، القيم، المبادئ، التعليم، الصحة، الإعلام، الدين، الفن، الاقتصاد، الفكر والثقافة. تكافح دولة ومكان مصر 2021 للبقاء والاستمرار والتمكين، ويكافح مجتمع مصر 2021 لاستمرار الثرثرة فوق نيل مهدد بسد النهضة! فحتى مع الشطرنج الإلهى والدعم القدرى لمصر وكفاح الدولة لحفظ نيلها، إلا أن زمن الثرثرة يفور مقاربا زمن الانتهاء!
مجتمع 2021 هو عوامة نجيب محفوظ المُبحرة فى نيل عليه علامات استفهام! ستبقى مصر ويتطور مكانها وتكافح قيادتها، ولكننا لا نريد فصلها العوامة المتيبسة عن اليابس المتطور، ليتيه مجتمعنا فى نهر الفوضى والتمرد الصامت!
بعد أوجاع 25 يناير وخلخلة العوامة وفتح المجارير ومسيرة الإصلاح حتى ظهور الزقازيق، تيقن أهل العوامة بأن ثورات الإصلاح أبقى من ثورات التمرد، ليثرثر جيل جديد بالعوامة المصرية فيبحر بها لروح 71، فنيا وإعلاميا ودينيا وتعليميا! مع تحديث واختلاف المصطلحات والنماذج.
تعجز ثرثرة نجيب محفوظ أمام مصر 2021! فتمكّن القيادة فى تأمين وحماية الحاضر والماضى، خطط التنمية وتعمير المكان، استحداث نظم واختراق مكتسبات، بناء مدن وإطلاق مشروعات إلخ، ستجعل العوامة مربوطة بالمرسى بوتد رصين! ولكن بتطور الثرثرة داخل مجتمع عوامة 2021، سنجد مآسى تحتاج تداركا وعلاجا وقد يكون استئصالا لمفاهيم وسياسات وسلوكيات ونماذج وطرق ورموز. لا انفصال بين عوامة مجتمع 2021 ومصر 2021، فهما حتى الآن متصلين ولكن الاستمرار لا يعنى النجاح! وطفح المثرثرين يدمن تعكير النهر فعلا، وما لم تحدث الإفاقة.. فتيه العوامة قريب!
ظهرت الإفاقة بثرثرة 66، بتنبه أنيس (وزير مملكة الكيف) لكارثة قتل الفلاحة الداعية لرزقها بولد (تعبيرا عن مصر) وتضامنه مع سمارة الصحفية لحتمية تسليم المثرثرين المذنبين للعدالة! فى إشارة واضحة لأن الهروب والتغاضى والتمادى فى العبث لن يُجدى سوى بكارثة عظمى لا يمكن معالجتها، فيأتى قرار فصل عوامة 66 من (حارسها المُصلى الوسطى، والصحفية المناضلة والمُعلم الفائق)، رمزا لمحاولة الدين الوسطى والإعلام والتعليم إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
فضفضة عوامة مجتمع 2021، تنتظر تصحيح القيادة للمثرثرين، بتنظيف العوامة من الأدعياء، بتطهيرها من المكيفات الفنية والفكرية والمهنية والدينية، بتوازى إصلاحات المكان مع مجتمعه، بتمكين أهل الخبرة والرؤية، بتحويل العوامة لبارجة أو سفينة صيد أو غواصة كنوز. لا عودة لصور حطام مدن القناة أو انتظار قتل محاولات مصر للعبور الجديد، لإفاقة مجتمع عوامة 2021 وبداية التغيير!
فقد انتهى زمن الثرثرة وتتوارى الفضفضة احتراما لشمس يوم جديد!
* محامى وكاتب مصرى