فى زيارة لإحدى الشركات المساهمة الكبرى (حجما وقيمة وأعمالا)، فاجأنى أحد موظفيها بسؤال طل من عين قلقة قائلا (اقتصاد مصر إلى أين؟)- أشفقت على نفسى لمجرد محاولة الإجابة، لما استعصى على جهابذة الاقتصاد والقانون والإدارة والسياسة! فتركيبة الاقتصاد المصرى حاليا معقدة جدا، ولمحاولة الفهم ـ لا الإجابة- يلزم للمحاول استيعاب وربط خيوط الاقتصاد، بالسياسة المحلية والدولية، بموقف الدول المجاورة، بالأمن المحلى والإقليمى، بالإعلام، بالتعليم، بالسياحة، بصناعة المال، بالوعى الجمعى للمجتمع، بخطط التنمية وتطوير البنية التحتية، بتوجهات الدولة للمرافق العامة إلخ، حيث “رأيت” السؤال “كأعمى” مطلوب منه وصف فيل!
جميع هذه الخطوط (بالتوازى والتوالي)، تعايش عمليا حزمة من الأعمال والتصرفات والظواهر، بادية التناقض وسارية التوافق! فرغم وجود مديونية مليارية، ومتوسط دخل فرد متدهور، وخط فقر مرتفع، ورفع دعم متنامى، وطبقة متوسطة تذوب، وسوق عقارية مرهقة، ومنظومة تعليمية أعلن البنك الدولى فشلها، ورقمنة خدمات ومرافق تشارك جيب المواطن، وتحزيم مصادر الدخل ومحاولات الكسب بتشريعات وقرارات مركبة، وإعلام مسطح وثقافة مرتبكة، وأزمات وجودية كسد النهضة ومغرز سيناء، فهناك أعمال وتنمية عمرانية قائمة على الأرض، تسليح مقصود أثبت حتميته، مركز أمنى يصارع فوضى إقليمية، حملات صحية فاعلة، اكتشافات للغاز وتطوير للطاقة الكهربية، مدن جديدة ومشروعات صناعية تتفتح وسط أعاصير إلخ. هذه التركيبة المعقدة تربك محاول الفهم والتبرير! فيتناقض من الهجوم للتأييد، ومن الرفض للصمت، ومن السخط والتمرد للاستمرار!
من يتابع الحزمة السابقة بهدوء، يظهر له معنى (بداخل كل فوضى نظام يحكمها، فحتى الفوضى لها نظامها)، العبرة لمن الغلبة عناصر الفوضى أم حكم النظام؟ بكتابهما الشهير (لماذا تفشل الدول؟) بحث المؤلفان دارون اسموجلى وجيمس روبنسون، من هارفارد وMIT، سؤال لماذا تفشل بعض الدول بتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة ومجتمع الرفاهية والتقدم لشعوبها، بينما ينجح البعض الآخر؟ خلال 15 سنة دراسة، أجاب الكتاب هل سيأفل نجم أمريكا/ هل سيسود النموذج الاقتصادى الصينى العالم، بتحقيق معدلات نمو عالية رغم أثرها المدمر للبيئة والإنسان/ هل التخلف مشكلة ثقافية أو مناخية أو جغرافية؟ الكتاب خلص لأن أساس فشل الدول ضعف مؤسساتها السياسية للقيام بوظائفها، لخطورة دور القيادة والإدارة على الموارد والمناخ والثقافة.
أحد الباحثين المصريين حاول تطبيق الكتاب على الحقبة السابقة، فوصل لضعف المؤسسة المباركية ومرحلة الإخوان، تجسد بضعف المؤسسة السياسية وأدوات القيادة والإدارة، المنتجين لروح العشوائية والتجاوز والانتهازية والاختراق واللامبالاة والشللية وجماعات الضغط والمصالح والاحتكار، بكافة أرجاء الدولة لتتحول لإقطاعية. اقتصاد وأموال وفساد ومصالح وقيم هذه المرحلة، ساعد على تراكم عادات ونماذج وأساليب، نحتت مفاهيم سلبية مطورة للدخل وأسباب ومصادر الكسب خارج كتب الاقتصاد! إن اقتصادا مريضا لمدة 30 سنة وذرية موبوءة بالتلاعب والكسل والتوجيه والسطحية والشطارة والفقر، يجعل السؤال فى 2021 إلى أين اقتصاد مصر، يفتقد لفهم علاقة الماضى بحاضر ينظر لأول مرة للمستقبل!
سؤال موظف الشركة الكبرى، رغم صدوره من شخص مستقر فى قبض راتبه ومشغول بمشروعات الشركة، ولديه حد معقول من أساسيات الحياة، إلا أنه يحمل قلق وهم المواطن العادى العائش ومصادق ومزامل آخرين بظروف أقل أو طاحنة أو معدمة! كلنا نصرخ من فواتير الكهرباء ولا نفهم كيفية تصديرها بسعر أقل %30؟ كلنا نغفو بقلق على زيادة البنزين مع تحجيم تكلفة إنتاجه؟ ونضجّ لبشاعة تكاليف التعليم مع اضمحلال المستوى التعليمى ومشاركة الأبناء ثورة الآباء على منظومة التعليم؟ ونحلم بسياحة داخلية ونتوارى من خيالية الأسعار؟ وندعى الفقر والعوز ونسارع لحجز شقق بكومباوندز لزوم الاستثمار ونمرح بصورنا بالفيسبوك؟ وننتقد سياسة الدولة بتوسعات البنية التحتية والمشروعات والتسليح، وننعم بالأمن واستخدام المرافق؟ كلنا يجرى يقبض مرتبه شهريا ويرفض المحاسبة على جودة عمله أو التزامه بالضوابط؟ ونشجب أغانى المهرجانات وتدنى الفن وندفع من جيوبنا رفاهية وفرعنة النجوم؟ أليس هذا باقتصاد يدلك سائلى لأين يتجه بمصر؟
تجربة مصر الجديدة لم تكتمل بعد، ولكننا نعاصر- برفض وتمرد- الصناعة المؤسسية الجديدة للدولة، لإنقاذ مصر! ومعلوم أن أى إنقاذ له تكلفة وأدوات وقيادة ومصادر، فالغُنم بالغُرم! وما نعايشه عمليا من الأعمال والتصرفات والظواهر، بادية التناقض وسارية التوافق، يقول إن حركة التغيير بطيئة ولكنها تنفذ، مرهقة ومكلفة ولكنها مثمرة، قد تكون مديونيات مليارية فعلا وقيادة حديدية، ولكن مقابلها نعاصر بلدا يكافح لكسر الطوق ومزاحمة الكبار، بزمن طمس خط النص!
لا أزعم النجاح المطلق للمؤسسة السياسية لأداء وظائفها، أو فعالية الإعلام المصرى بدوره لتصحيح وإنقاذ الوعى الجمعى، ولا أتغنى بمآثر البرلمان ومجلس الشيوخ أو فعالية رقابتهما للحكومة، ولكنى أجزم بأن لمصر قيادة حقيقية تقود دفة الأمور فى ملفات متفجرة كسد النهضة والتعليم والبنية التحتية والأمن والسياسة الدولية، وكلها تصب ويتفرع منها وتتداخل لتشكيل اقتصاد مصر فى مرحلة حرجة.
إجابة سؤال اقتصاد مصر إلى أين؛ تحتم تصميم خطاب سياسى اقتصادى جديد، يراعى شفافية خطط الدولة وتصورها عن الغد، وتتجه به الدولة للمواطن كشريك حقيقى بالمسؤولية، وليس فقط منتفعا ومستفيدا بالنتائج، أو منتقدا لها ومع ذلك تعزف عنه الدولة متقدمة وضاغطة لتحقيق رؤية كبرى، لا نستوعب منها إلا ما يطفو بتصريحات.
إذا أردنا معرفة اقتصاد مصر إلى أين، يلزمنا التركيز على إنقاذ التعليم والإعلام والتدريب! وإعادة صياغة إعلام الدولة ومؤسساتها الثقافية، والاهتمام بالإبداع والاختراعات والتقنية وحقوق الملكية الفكرية، علينا دعم الدولة لرصد تمويلات الإخوان وتحجيم الاقتصاد الدينى، علينا تحرير دخل الفرد وغربلة التشريعات المنظمة للعمل واللوائح التنفيذية للأنشطة التجارية والصناعية بما يناسب الجمهورية الثانية، علينا وضع مصر على خريطة المراكز المالية الدولية مثل نيويورك ولندن وشنغهاى ودبى، وتأسيس مدن وأحياء مال جديدة بنظم ومفاهيم وتشريعات عصرية، علينا تحجيم ثقافة وفن التسطيح وسواد دراما الواقع والكوميديا، واستبدالها بترجمة فنية ودرامية لرؤية 2030 بتنمية وزيادة الناتج المحلى الإجمالى المصرى GDP، بأعمال فنية تطلق عقال معانى التنمية والبناء والعمل.
وقتها .. قد يمكننى إجابة سؤال صديقى الموظف القلق؛ اقتصاد مصر إلى أين؟
- محامى وكاتب مصرى
[email protected]