الإمام الطيب والقول الطيب
(21)
فى التجديد وما إليه
يفرد الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب بابًا من المجلد الأول من ثلاثية «القول الطيب»، ليخصه برؤيته فى قضية التجديد وما إليه.
والواقع أننى لمست عن قرب منذ انضمامى لمجمع البحوث الإسلامية منذ قرابة عشرين عامًا، عناية الأزهر الشريف، وإمامه الأكبر السابق، والإمام الحالى، وكبار شيوخه وعلمائه، بالتجديد فى الفكر الإسلامى، وبقضية التراث والتجديد، فضلاً عن تجديد الخطاب الدينى.
وقد عرفت الإمام الأكبر الحالى الدكتور أحمد الطيب، منذ البدايات، فقد كان من عيون مجمع البحوث الإسلامية حين انضممت إليه، وكان آنذاك مفتيًا للديار المصرية، بعد رحلة علمية عريضة، حصل فيها على الدكتوراه من كلية أصول الدين، ودرس فى فرنسا وحاضر فيها، وهو يتحدث الفرنسية والإنجليزية بطلاقة، إلى جوار تبحره فى العربية، وعمل أستاذًا للعقيدة والفلسفة الإسلامية فى جامعة الأزهر، وتولى عمادة كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وبالجامعة الإسلامية العالمية بباكستان، وهو عالم مجدد بطبيعته، جمع إلى جوار علمه الغزير، والرؤية البصيرة، دماثة الخلق، وزهدًا وأدبًا رفيعًا، وظل معنا فى عضوية المجمع حين تولى رئاسة جامعة الأزهر بعد دار الإفتاء، ليتولى بعد ذلك مشيخة الأزهر فى مارس 2010 إثر رحيل الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوى الذى ربطنى به ود عميق، وتقدير عظيم، ومحبة خالصة.
ضرورة التجديد
وأول ما يطالعك فى هذا الملف، حديث تمهيدى عن ضرورة التجديد، أصله بحث ألقاه فى مؤتمر عالمى حاشد، عقد فى القاهرة بين 31 مايو 3 يونيو 2001، بإشراف أستاذنا الجليل المرحوم الدكتور محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف آنذاك، حول التجديد فى الفكر الإسلامى، ولا زلت أحتفظ بالملف الضخم لهذا المؤتمر، وأحتفظ بين أوراقى بالمحاضرة الضافية التى ألقاها فيه الدكتور أحمد الطيب، الأستاذ بجامعة الأزهر آنذاك، حول «ضرورة التجديد»، ليشير فى محاضرته القيمة إلى أن الغريب أن مصطلح «التجديد» فى الإسلام، لا يزال رغم الجهود المستمرة، محفوفًا بقلة فهم البعض، وبتشكك البعض فى مقاصده ونواياه. وأنه لذلك آثر أن يقدم دراسة بمنهجية علمية تبحث «ضرورة التجديد» فى إطار عناصر محددة : التجديد وطبيعة الإسلام التجديد جوهر التراث من أزمات التجديد ضرورة التجديد المعاصر الذى ازدان سلفًا بأمثال الإمام محمد عبده، والشيخ أمين الخولى، ومحمد إقبال وغيرهم.
وقد إنفرد الإسلام عن بقية الرسالات فيما أورد الدكتور الطيب بأنه الرسالة الخاتمة، وبأن نبيها هو خاتم الأنبياء، فقال تعالى : «وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ» (الأحزاب 40)، وانفرد ثانيًا بأنه رسالة للناس جميعًا تتخطى حدود الزمان والمكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها : «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا…» (سبأ 28).
وأن هذه الخاتمية وعموم الرسالة، قد اقتضيا استمرار رسالة الإسلام إلى آخر الزمان وإلاَّ انقطع عن الناس الهدى الإلهى، وهذا يستحيل أن يُنْسب إلى القرآن الكريم الذى جاء مطلقًا من الزمان والمكان، وفيه قال الحق جل شأنه : «هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (التوبة 33). ولهذه الخصائص لم يقتصر نجاح دعوة الإسلام على مكان دون آخر، فنجحت حيث نزلت فى مهدها الأول، ونجحت فى بيئاتٍ قصيَّة رغم أنها تختلف لغةً وجنسًا وعرقًا وعقيدة وتاريخًا وحضارة.
ويرشدنا التأمل إلى أن هذا النجاح نابع من صلاحية الرسالة لكل زمان ومكان، واتسامها بما يوافق طبيعة الإنسان الروحية والمادية، والتفرقة إزاءها بين «الثابت» على الزمان، ولا يشكل للناس عنتًا ولا حرجًا، وبين ما يتغير فى حياتهم مما لا يستطيعون له دفعًا.
والتجديد أو التجدد الذاتى هو التعبير الدقيق عن هذه الخاصية الصالحة لتلبية حاجة الإنسان فى كل زمان وكل مكان، ولو كان الإسلام نصوصًا جامدة لا تقبل التجديد، لما كان لعموم الرسالة وخاتميتها معنًى ومقصد، بل ولفقدت كل مبررات نسخها لما قبلها وخاتميتها أو قدرتها على الاستمرار فى رعاية حياة الناس ومعاشهم، ولكان قصاراها أن تؤول إلى رسالة روحية حبيسة عن رعاية الحياة المتجددة، ومن هنا كانت صلاحية الخطاب للتجدد مع تجدد الأزمان والأحوال.
www. ragai2009.com