من تراب الطريق (1184)

من تراب الطريق (1184)
رجائى عطية

رجائى عطية

7:28 ص, الثلاثاء, 21 سبتمبر 21

الإمام الطيب والقول الطيب

(16)

الفتاوى الدينية وحتمية التجديد

حتمية التجديد حقيقة واجبة الإعمال، لم يَعُد يجادل فيها عالِم مدرك لواجبه إزاء الإسلام، وقد كتبتُ فى ذلك كتابًا ضخمًا فى تجديد الفكر والخطاب الدينى، أحيل عليه لمن يريد.

وفضيلة الإمام الأكبر يربط هذا الواجب الحتمى بالفتوى ودورها، وهو ربط بصير، ألقاه فضيلته فى مؤتمر «الفتوى.. إشكاليات الواقع وآفاق المستقبل»، الذى نظمته دار الإفتاء فى أغسطس 2015.

ودعونى أنقل إليكم ما قاله الإمام الطيب بلفظه. قال:

«وقد أدركتُ من خلال قراءتى فى سيرة الإفتاء والمفتين أن التحرُّج والتأثُّم كانا عُدَّة المفتى وعتاده، ومنبع اطمئنانه، ورضاه عن كل ما يصدر عنه من فتاوى، وإجابات على أسئلة الناس.. بل كان الميزان البالغ الحساسية فى مفترق طريق تضل فيه الفتوى ضلالاً مبينًا، بين طرفى الإفراط والتفريط، وتتذبذب فيه بين التضييق والتشدد بدعوى الورع، والوقوف المقدس عند عتبات السابقين وفتاواهم، وبين التوسع والترخص بدعوى العصرنة ومواكبة التطور، و«كلا طرفىْ قصد الأمور ذميم» كما يقول شاعرنا القديم.

«بيد أن التخوّف، أو المبالغة فى التورّع قد أدى فى كثير من الأحيان إلى الانصراف عن النظر الفقهى الدقيق فى الفتوى، وسلوك طريق سهل يريح من عناء البحث فى تكييف السؤال، والتنقيب عن حُكْمِه ودليله، وتنزيله على الواقع، حتى صارت الفتوى فى قضايا المجتمع المعاصر تحريمًا أو إباحةً لا تكلف الباحث أكثر من العودة إلى ما قيل فى أشباهها، من أقوال السابقين ولو لأدنى ملابسةٍ، ولا سند للباحث إلاَّ بعض مشتركات، أو أوجه شَبَهٍ ضعيفة، لا تجعلُ من المسألة التى هى محل الاستفتاء، والمسألة المقيس عليها قضيتين متماثلتين، تنطبق عليهما القاعدة العقلية التى تقرر أن « حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد » وأصبح من المعتاد أن كثيرًا من الفتاوى التى تحتمل التيسير والتعسير، يُفتَى فيها بالتعسير تورّعًـا، وتحوطًـا، ومـن بـاب متابعـة الخَلـف للسلف.. مع أن التعسير الذى يظنه المفتى إبراءً لذمته أمام الله تعالى، هـو بعينه التعسير الذى نهى عنه النبى عليه الصلاة والسلام، وحذر منه فى حديثه الشريف: «يسّروا ولا تعسّروا»، وتوعّد من يشق على أمّته بالويل والثبور، ودعا عليه فى الحديث الصحيح: «اللهم من وَلِىَ من أمر أمّتى شيئًا، فشق عليهم، فاشقق عليه».

«وليس صحيحًا أن المشقة التى حذر منها الحديث الشريف قاصرة على من يشقّ على الناس فى أعمال الرزق والمعيشة، بل هى تنطبق تمام الانطباق ومن باب أولى على كل من يشقّ عليهم بفتوى شرعية ترهقهم من أمرهم عسرًا، أو توقعهم فى الحرج الذى جاءت الشريعة لرفعه وإزالته.

« ومما لا شك فيه أنه لا يوجد مشتغل بالإفتاء إلاّ ويحفظ عن ظهر قلب ما هو مُسَلَّمٌ عند الفقهاء جميعًا، من أن الحكم يدور مع العلّة وجودًا وعدمًا، فإن وُجِدت العلّة وُجِد الحكم، وإن انتفت العلّة انتفى الحكم، ورغم ذلك لازالت الفتاوى فى مسائل عدة تتذبذب بين الحِلّ والحرمة، وتترك الناس فى حالة من الشعور المضطرب المتأرجح بين الطمأنينة والحرج، خُذ مثلاً اقتناء التحف والمجسمات التى على شكل التماثيل، أو التكسب من مهنة التصوير، فى ظل ما شاهدناه بالأمس البعيد ونشاهده اليوم على شاشات التلفاز من تدمير آثار ذات قيمة تاريخية كبرى فى ميزان الفن المعاصر، وكان تدميرها بفتاوى باسم الإسلام وشريعته، ولم نسمع أن مجمعًا فقهيًّا عقد اجتماعًا دُعى فيه فقهاء العصر وشيوخ الفتوى فى عالمنا الإسلامى لبيان الحكم الشرعى فيما حدث، وفى ظل متغيرات عالمية وأعراف استقرت على تخصيص كليات للآثار وللفنون الجميلة ولصناعة السياحة، ولايزال المسلمون فى حيرة من أمرهم حيال هذه المجسمات: هل هى مجرد تُحف لا بأس من اقتنائها شرعًا، أو هى أصنام وأوثان لا يجوز للمسلم أن يتعامل معها أو يمسّها بحال من الأحوال ؟!.. بل لا يزال بعض المعنيين بالإفتاء يصادرون على كل ذلك بالتحريم المطلق، مع أن المقام مقام بحث وتنظير وتفتيش عن وجود العلّة أو غيابها، وهو بحث يسبق بالضرورة مرحلة صدور الأحكام التى تصدر وكأنها أحكام تعبدية وأمرٌ أمَرنا به الشارع، ولا نعقل لها معنى، وليست من قبيل الأحكام التعليلية التى ترتبط بعللها وُجودًا وعدمًا.. وتحريم صناعة التماثيل فى صدر الإسلام فى غالب الظن إنما كان مُعلّلاً بما استقرت عليه عادة العرب فى ذلكم الوقت من عبادة الأصنام وصناعتها، واتخاذها آلهة تُعبد من دون الله، وكان من المتوقع، بل من المطلوب من الشرع الحنيف أن يحرم اقتناءها وصناعتها سدًّا للذرائع وتجفيفًا لمنابع الشرك، وحمايةً للوليد الجديد الذى هو «التوحيد»، وإذا كان الأمر كذلك فما هى علّة التحريم الآن بعد أن استقر الإسلام، وتغلغل «التوحيد» فى العقول والقلوب والمشاعر، وتلاشت عبادة التماثيل عند المسلمين جميعًا!!، ونحن نعلم أنه قد مضى على المسلمين الآن ما يقارب خمسة عشر قرنا هجريًّا من الزمان، لم نسمع أو نقرأ أن مسلمًا واحدًا عكف على تمثال يعبده من دون الله، ويتخذه له شريكًا، فهذا أبعد شىء عن أى مسلم ينطق بالشهادتين، بل هو المستحيل الذى تشهد له أدلة النقل، فقد طمأننا النبى عليه الصلاة والسلام قبل أن يتركنا إلى الرفيق الأعلى، وأقسم بالله على ذلك، فقال فى حديث معجز، رواه البخارى ومسلم عن عقبة بن عامر أن النبى عليه الصلاة والسلام خرج يومًا فصلى على أهل أُحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبـر فقال: «إنِّى فَرَطٌ لكُمْ، وأَنَا شَهِيدٌ علَيْكُم، وإنِّى واللَّهِ لَأَنْظُرُ إلى حَوْضِى الآنَ، وإنِّى قدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأرْضِ أوْ مَفَاتِيحَ الأرْضِ وإنِّى واللَّهِ ما أخَافُ علَيْكُم أنْ تُشْرِكُوا بَعْدِى، ولَكِنِّى أخَافُ علَيْكُم أنْ تَنَافَسُوا فِيهَا»، أى: الدنيا».

www. ragai2009.com

[email protected]