الهوية والعنف !
عنوان هذا العمود ليس من عندى، وإنما هو عنوان لكتاب أصدرته سلسلة «عالم المعرفة» فى عددها 352 فى يونيو 2008.. يتحدث عن وهم المصير الحتمى، لفيلسوف واقتصادى هندى يدعى أمارتيا صن، من مواليد دكا (عاصمة بنجلاديش الآن)، وصاحب عديد من الشهادات العلمية من جامعات هندية وبنجلاديشية وآخرها الماجستير 1956 ثم الدكتوراه 1959 من جامعة كمبردج الإنجليزية، وقام ويقوم بالتدريس فى عدة جامعات آخرها جامعة هارفارد الأمريكية، وترجمت كتبه إلى أكثر من ثلاثين لغة، منها هذا الكتاب الذى ترجمته إلى العربية المترجمة المصرية الأستاذة الأديبة سحر توفيق.
تجربة المؤلف الأولى مع العنف، كانت فى الحرب التى اندلعت فى شبه القارة الهندية بين المسلمين والهندوس فى أربعينيات القرن الماضى، وعاين بنفسه الضحايا فى هذا الصراع الدامى من العمال والفقراء وعائلاتهم، فتولد لديه احتجاج على هذا العنف قاده التأمل فيه إلى خروج بأن ما يدعمه ويشعله هو الانحصار فيما يسميه «وهم» الهوية المتفردة.. فهذ الانحصار هو الذى يقود إلى التعصب ومن أمراضه العنف والعدوان والإرهاب. هذا الانحصار ضد طبائع الشخصية ذاتها. فــلا توجـد شخصية ذات هوية «وحيدة» أو «منفردة» أو «متفردة».. الدليل على ذلك أن «هويات» الشخص أى شخص تتعدد بالضرورة بتعدد انتماءاته العرقية، والطائفية، والحزبية، والمذهبية، والإقليمية أو المحلية، وبتنوع ثقافاته ومعارفه، وبتنوع أعماله وأنشطته.. بل وبتنوع ما يحبه وما يكرهه فى رياضته وفى طعامه وشرابه. ما بين نباتى مثلا وغير نباتى. فالأمريكى مثلا قد يكون أمريكيا بالميلاد، أو قد يكـون منحدرا مـن أصل كاريبى أو أفريقى.. ثم هو قد يكون مسيحــيا أو يهوديا أو مسلما.. امرأة أو رجلاً.. شاباً أو كهلاً أو شيخاً.. ليبراليا أو متحفظا.. رياضيا أو غير رياضى. مؤرخاً أو معلماً أو روائياً أو عاملاً يدوياً.. مناصراً لقضايا المرأة أو غير مناصر.. طبيعى أو مِثلى.. محب أو باغض لهذا النشاط أو ذاك.. فالهويات الإنسانية متعددة بكل هذه التنوعات.. توجـد الهويات، العرقية، والجنسية، والثقافية، والحزبية، والأممية، والوطنية، والقبلـية أو الأسرية، والمجتمعية، والمذهبية، والرياضية، والسياسية، والمهنية، الوظيفية، والفكرية، والدينيّة أو الملليّة، والسلوكية، واللغوية، والمعرفية، والطبقية المالية أو الاجتماعية، وغير ذلك من الهويات التى تتنوع تنوعا بلا عدد.
ولا ينشأ التعصب إلاّ إذا سلخ الإنسان نفسه عن هوياته المتعددة، ليحصرها فى هوية واحدة وحيدة متفردة، فينمو بالوعى وباللا وعى تعمق إحساسه بهذه الهوية التى يظن أو يعتقد أنها «الوحيدة» «الفريدة» ظنا غالبا ما يقترن بوصفها أو افتراض أنها مقاتلة متعين عليها أن تواجه وتناهض الهويات الأخرى المقابلة لها.. وهو ما يقف سببا وراء إثارة المواجهات الطائفية !
فالعالم كثيرا ما يؤخذ فيما يقول المؤلف على أنه مجموعة من الأديان، أو من الحضارات، أو من الثقافات، مع تجاهل الهويات الأخرى التى يتمتع بها الناس ويقدرونها، والتى تتعلق بالطبقة، والنـوع، والمهنة، واللغة، والعلم والأخلاق، والسياسات. ينبغى لنا أن نرى بوضوح أن لنا أو لكل منا انتماءات كثيرة منفصلة، وأن هذه الانتماءات يمكن أن تتفاعل بعضها مع بعض بطرق كثيرة مختلفة، وإغفال حقيقة هذا «التعدد» لانتماءاتنا، وحاجتنا من ثم إلى التفكير والاختيار، هو الذى يجعل عالمنا مبهماً غامضاً مليئا بالتعصبات، ويدفعنا فى اتجاه المنظور المرعب الذى مثله الشاعر والناقد الإنجليزى ماثيو أرنولد (1822/1888) فى قصيدة شاطئ دوفر Dover Beach، والتى قـال مما قاله فيها:
وها نحن هنا والظلام مدلهم ينبسـط حولنــا
وقد ساقتنا إنذارات مشوهة بالصـراع والفـرار
إلى حيث جيوش جاهلة تتصارع فـى ظلام الليل
إننا قادرون على أن نفعل ما هو أفضل مـن ذلك
يرى المؤلف أن كثيراً من النزاعات والأعمال الوحشية فى العالم تتغذى على «هوية متفردة» لا اختيار فيها، وأن فن بناء الكراهية يأخذ فى هذه الحالة شكل إثارة قوى سحرية لِهُويّة مزعومة السيادة والهيمنة تحجب كل الانتماءات الأخرى. والحقيقة أن من أهم مصادر الصراعات الكامنة فى العالم المعاصر الزعم بأن الناس يمكن تصنيفهم تصنيفا متفردا مؤسسا على الدين والثقافة. وهذا النظرة التقسيمية بشكل متفرد ليست فقط ضد الاعتقاد قديم العهد بأن كل الكائنات البشرية متماثلة كثيرا، لكنها أيضا ضد الفهم الذى قلما يناقش مع أنه أكثر قبولاً بأننا (برغم وحدة هوية ما) مختلفون بدرجات متنوعة، وأنه من الخطأ أو من غير الواقعى أن يؤخذ العالم، والأفراد بالتالى، على أنه مجموعة من الأديان أو من الحضارات أو الثقافات، مع تجاهل الهويات الأخرى التى يتمتع بها الناس ويقدرونها، والتى تتعلق بالطبقـة، والنوع، والمهنة، واللغة، والعلم، والأخلاق، والسياسات. فالتقسيم المحورى المتفرد هو الأكثر قابلية لإثارة المواجهات، عن عالم التصنيفات المتعددة والمتنوعة التى يتشكل منها العالم الذى نعيش فيه.
الكتاب رائع وعريض المعالجة، فى ستة فصول، تناولت بعد التمهيد: عنف الوهم، وإدراك مفهوم الهوية، والعزل الحضارى، والانتماءات الدينية والتاريخ الإسلامى، والغرب ضد الغرب، والثقافة والأسر، وأصوات العولمة، والتعددية الثقافية والحرية، وأخيراً: حرية التفكير.
ليس مرادى، ولا هو فى وسعى فى هذا الحيز أن أنقل إليك ما فى هذا الكتاب الضافى المثير للفكر والتأمل، ولكنى لم أشأ أن أفوت فكرته، وأن أقرنها بدعوة يجب أن يلتفت إليها كل متعصب: يهودى، أو صهيونى، أو عرقى، أو أصولى، أو طائفى، أو مللى حين ينساق وراء المتعصب لهوية واحدة وحيدة متفردة ويغضى عمَا عداها.. ترى ماذا سوف يكون حاله وتعصبه إذا وسَّعَ أفقه، وتأمل فى هوياته المتعددة العالقة به شاء أم أبى.
هل سيظل على هذا التعصب المقيت الذى أحال العالم إلى ساحة مريرة للعنف والصراع والاشتباك ؟!!
www. ragai2009.com