غربة القريب!
أن يشعر الإنسان بالغربة وهو خارج وطنه أو بعيد عن بلده وأهله وأصدقائه فذلك إحساس طبيعى لا غرابة فيه، يترجم عن الشعور بالغربة فى محيط غريب غير المحيط المعتاد الذى يعيش فيه.. ولكن ما يستدعى الالتفات، ويستأهل التفسير: الشعور بالغربة الذى يمكن أن ينتاب الشخص بداخل محيطه وعلى أرض وطنه وبين أهله وذويه وأصدقائه وزملائه ومعارفه.. ووجه الغرابة أن المكان وشاغليه المحيطين به، مألوفون له، يعيش بينهم ويتعامل معهم ويرتبط بهم بقرابات أو صلات أو علاقات.. فكيف يشعر بالغربة وسط من يلاقيهم اليوم كما لقيهم بالأمس القريب والبعيد.. ما الذى طرأ أو استجد حتى يشعر بالغربة وسط المحيط القريب الذى عاش ويعيش فيه ؟!
لست أقصد بغربة القريب فى محيطه، ما قد يستشعره الشخص حين يفارقه الشباب وتقتحمه الشيخوخة فينكرها ويستغربها ويستوحشها ويراوده النزوع أو الحنين إلى ماضى الشباب الذى ولَّى، أو ما يلم بمن يخسر ثروته ويستوحش الفقر بعد الغنى، وإنما أقصد إلى غربة القريب وسط محيطه، دون أن يفقد هو شخصيا ما يوحشه أو يدفعه إلى الإحساس بالغربة!
ترى هذا المعنى الذى أومىء إليه، فى الكلمات التى يعشقها أستاذنا مصطفى مرعى للفيلسوف الأديب أبو حيان التوحيدى.. كان يقول :
« أغرب الغرباء من صار غريبا فى وطنه..
وأبعد البعداء من كان بعيداً فى محل قربه..
لأن غاية المطلوب أن يسلو عن الموجود..
وأن يغمض عن المشهود..
وأن يقصى عن المعهود!
يا هذا الغريب!!
الذى إذا ذكر الحق هُجِرَ
وإذا دعا إليه زُجِــرَ!!»
هى إذن الغربة التى يحسها قائل الحق المتمسك به.. لأن الناس درجوا حكامًا ومحكومين على الترحيب بما يرضيهم، والضيق بكل ما يعتقدون أنه ينغص عليهم، ويفتح أبواباً يريدون لها أن تنغلق، ويثير أموراً يبتغون أن تتوارى وتندثر.. إيثار السلامة وعشق الذات وإيثارها على كل ما عداها آفة آدمية، يكاد لا ينجو منها إلاّ القلّة القليلة.. وأغلب الناس على عشق ذواتهم، وعلى كراهة الحق وإنكاره إذا خـالف مصالحهم، وعلى النفور ممن يحرك السواكن ويوقظ ويقرع وينبه إلى العيوب والمثالب!
الغربة التى يعنيها التوحيدى، ليست الغربة المادية.. وإنما الغربة النفسية التى يستشعرها القريب حين يحس أنه لم يعد يعيش فى دنياه التى تتواءم مع عقله وفكره وقيمه ومبادئه.. لا هو راضٍ بما درج عليه معظم الناس، ولا هم يمكن أن يقبلوا أو يرتاحوا لما لا يستطيع السكوت عنه فيفصح عنه ويصدح به!!
وقد يشعر بالغربة فى محيطه حين تتنامى ملكاته وأفكاره ورؤاه ومناقبه، تناميا لا يجاريه ولا يلاحقه ولا يقبله خفوت شعلة المبادئ والقيم والإخلاص عند الغالب الأعم من الناس! وقد يزداد الفرق اتساعًا فيحرك لدى ضعاف النفوس الغيرة والحسد، ويوغر الصدور، وتعتل منه القلوب، وتلتهب الأهواء فيشعر القريب أنه غريب فى محل قربه بين من ضاقت صدورهم عن الاتساع له، أو قعد قصورهم عن التحليق معه أو اللحاق به!
لا تقتصر الغربة على المحيط الخاص، بل تكون أنكى وأشد على المستوى العام.. حين يتواضع مُلاّك الأمر على محاصرة النابهين وتغليق السبل على أصحاب الرأى.. حول الدائرة الضيقة الممسكة بمقاليد الأمور، تتجمع دوائر أوسع من الخاملين وطلاب المنافع.. لا سبيل أمامهم فى ترخصهم إلاّ محاصرة العقول النابهة المتقدمة والملكات الخاصة، فتتناقص شيئًا فشيئًا أمام النابهين الدوائر التى يمكن أن يتواءموا معها، وتتقطع الأسباب بينهم وبين المجموع العام الذى يفقد بابتعادهم أو إبعادهم العقل الذى كان يمكن أن يقود ويسدد خطاه!
عند ذلك يضمر العقل الجمعى ويتراجع بالضرورة، ما دامت رياداته محاصرة ومعزولة تُقَابل بالصد والنكير، وبالسباب والقذائف واللكمات.. فيؤثر النابهون الالتحاف بغربتهم ويلوذون بالصمت ويعرضون عن المشاركة، وتتجذر الغربة وتتحول مع الأيام إلى إحساس هائل بالانفصال التام عن المحيط!
تخسر المجتمعات خسرانًا كبيرًا هائلاً، حين تنفصل الصفوة النابهة عن تيار الحياة.. فهذه الصفوة هى عقل الأمة، وهى القاطرة التى تشدها وتحدد وتصوب لطريقها معالم الاستنارة والرؤية الصافية المجدولة بالحكمة والتجرد.. ظنى أن ما يجرى الآن فى بلادنا، قد نحى قامات عالية كانت جديرة بأن تعبر بسفينة الوطن إلى شاطئ السلامة والأمان!
www. ragai2009.com