خواطر مواطن مهموم (94)

خواطر مواطن مهموم (94)
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

8:00 ص, الأحد, 27 يونيو 21

المسألتان اليهودية والفلسطينية

أتوقف قليلًا عن سرد تاريخ أوروبا والأحداث التى أجبرت ملايين من اليهود على ترك القارة؛ لأن الوقت لم يسعفنى فى تحضير مقالي، ولكننى أستمر فى عرض المسألة الصهيونية وقضية فلسطين.

كتب الدكتور رشيد الخالدى كتابًا هامًّا عنوانه «القفص الحديدي»، وفكرته الرئيسة أن الفلسطينيين لم يجدوا قط فرصة حقيقية للدفاع عن قضيتهم، فالموازين المحلية والإقليمية والدولية والاستعمارية كانت كلها فى صالح القادمين الجدد واستمرت هكذا. لست ملمًّا بالتاريخ التفصيلى للقضية ولكننى أستطيع أن أقول إن سرده وحججه تبدو قوية. ويميل الدكتور هنرى لورانس إلى تأييده؛ وهو الذى خصص ما لا يقل عن عشر سنين من عمره فى دراسة «المسألة الفلسطينية»، وخصص لها العديد من الكتب، وهو من المؤيدين للعرب القليلين الذين يتمتعون بمصداقية واحترام الطرف الآخر المتعاطف مع إسرائيل المؤيد لها. ولا يعنى هذا أن الأستاذين الكبيرين معصومان من الخطأ. وأحدد قصدي. بصفة عامة تشخيصهم سليم، وفهمهم للأوضاع الإقليمية والدولية وإلمامهم بروايات كل الفاعلين لا مثيل له، ولكن الاختلاف معهم حول تقييمهم لبعض اختيارات القيادات الفلسطينية جائز مع تفهّم لدوافع تلك القيادات.

أفهم طبعًا أسباب وحيثيات قرار الزعيم الراحل ياسر عرفات برفض توقيع الاتفاق الذى عرَضه رئيس الوزراء الإسرائيلى باراك، وأيّده الرئيس كلينتون، لكن تداعيات هذا القرار وقرار شن الانتفاضة الثانية وتسليحها تسليحًا خفيفًا كانت متوقعة، وكانت فى مجملها سلبية. وطبعًا هناك مشكلة موقف مفتى القدس الراحل الحاج أمين الحسيني، وهو موقف استغلّته الدعاية الصهيونية وما زالت. إذ اختار الانحياز إلى ألمانيا الهتلرية.

تبِعات هذا القرار كانت كارثية إلى حد لا نتخيله هنا، ولكن المفتى معذور. معذور لأسباب أخلاقية إذ لم يكن من الممكن أن يتوقع ما حدث- المحرقة والتصفية البشعة ليهود أوروبا وعشرات الملايين من أبناء «الجنس السلافى»- أقول هذا مذكرًا إنه حتى الغالبية العظمى ممن قرءوا كتاب «كفاحي» لم يتصوروا لحظة أن هتلر سينفذ ما قاله. لا أصدق على عكس غيرى ما قاله المفتى من أنه لم يعلم بأمر المحرقة قبل سبتمبر 43.. أظن أنه عرف بالأمر أشهر قبلها… ولكنه من المؤكد أنه لم يكن يعرف نوايا هتلر عندما قرر التحالف معه على عكس ما يقوله بعض المؤرخين المنحازين لإسرائيل. يبقى أنه تورط مع هتلر بعد سبتمبر 43 بطريقة بشعة لا يمكن قبولها ولا الدفاع عنها، رغم أن خسارة ألمانيا للحرب كانت شبه مؤكدة. لكن خياراته كانت قليلة، وربما لم تكن له خيارات عند هذا التاريخ.

ومن الناحية السياسية يمكن التماس الأعذار له، فقبل غزو ألمانيا للاتحاد السوفييتى لم تكن هناك أسباب كثيرة لاعتقاد أن المملكة المتحدة ستنتصر فى الحرب رغم مساعدة الولايات المتحدة المتصاعدة لها ورغم الأعباء التى شكلتها القرارات الحمقاء لحليف هتلر موسوليني. وحتى بعد دخول الولايات المتحدة واليابان الحرب فى أواخر 41 لم تتضح الصورة تمامًا للجميع. وطبعًا لم يكن للمفتى أى سبب للإيمان بعدل وإنصاف المملكة المتحدة التى ظلمت الفلسطينيين كثيرًا وظلمته هو.. حتى لو تغيّر موقفها من القضية الفلسطينية فى أواخر الثلاثينات ليكون أقلّ ظلمًا بكثير.

يرى صديقى الدكتور شريف يونس أن سياسات المفتى لم تؤثر كثيرًا على موازين القوة؛ لأن الوضع بنيويًّا كان ضد الفلسطينيين، ويقول شريف إن المشرق العربى تاريخيًّا كان جزءًا من إمبراطورية، ولم يعرف معنى الدولة الحديثة ولم يشكل كوادر تستطيع إنشاءها وإدارتها، وكانت الصيغة الحاكمة هى علاقة بين الإدارة العثمانية وأعيان المشرق، ومع انهيار الإمبراطورية وجد الفلسطينيون أنفسهم أمام وضع جديد لم يألفوه ولا يملكون أدوات التعامل معه ويواجهون المملكة المتحدة والقادمين الجدد.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية