الشرق الفنان
(24)
الشرق والغرب كلاهما متفق على أن العين ترى، والأذن تسمع، ولكنهما لا يتفقان فيما تراه العيون وتسمعه الآذان.
يجيبك الشرقى عن هذه وتلك بأنها آيات يتبدَّى فيها الواحد الأبدى ويتجلى ليصبح بآياته تلك ــ مرئيًّا مسموعًا، أو بالأحرى كالمرئى وكالمسموع ــ ولكنه هو وحده الخالد الباقى، أما تلك الآيات الدالة على وجوده فإلى زوال وتجدد لأن قدرته تعالى لا تتوقف عند حد فى آياته الدالة عليه.
أما الغربى فإنه يراها ظواهر يرتبط بعضها ببعض على صور مطردة، فإذا كشفنا عن عذا الاطراد ــ فقد كشفنا أو اكتشفنا القوانين التى تسير الأشياء على سنتها.
الإدراك الوجدانى لا تقام عليه البراهين، وإنما هو يُمارَس ويُعَانى ويُختبر بالنفس. آية ذلك أن المحب لا يستطيع أن يعبّر عن لوعة قلبه بالبرهان.
أما القوانين التى يخلص إليها الفريق الثانى، فمما يقبل الإثبات والتعبير بالبرهان والدليل.. كشأن قانون الجاذبية مثلا.
يوضح الدكتور زكى نجيب محمود غايته، فى أن ثقافة الشرق هى من قبيل ما يستطيع صاحبه أن يقطع بيقينه لأنه قد أحسه بقلبه. والقلب دليله الذى لا يخطئ، ولكنه لا يستطيع أن يحاجيك به!
أما ثقافة الغرب، فهى من قبيل ما يُطلب البرهان على صدقه أو صوابه، ذلك لأنه قائم على التفكير النظرى والمنطق العقلى.
وإذا تكلم الشرقى جاء كلامه مرتعشًا بهزة الوجدان الشاعر.
وإذا تكلم الغربى جاءت عبارته باردة كرمزها، ذلك أن حرارة العاطف تعيب استدلالها بما ترتب فيه النتائج على المقدمات، من زاوية العلم والمنطق والتجربة، لا من زاوية القلب والعواطف.
وهذا هو الفارق فى الفن ــ فيما يرى الدكتور زكى نجيب محمود ـــ بين الفن هنا والفن هناك. لأن الفن الشرقى لم يكن يُراد به فى كل عصوره أن يصور الحقيقة الجزئية الخارجية تصويرًا يستهدف التمثيل الدقيق كتمثيل الكاميرا. تلحظ ذلك فى التصوير الهندى للآلهة والآلهات، فتراها ذوات أذرع كثيرة ورءوس متعددة إلى غير ذلك.
ذلك لأن الفنان الشرقى يرسم الحقيقة كما تقع فى وعيه ويحسها فى وجدانه.
أما الفنان الغربى ــ لو استثنينا الأعوام المائة الأخيرة فيما يتحفظ الدكتور زكى نجيب محمود ــ فقد كان يراعى أن تأتى الصورة كالواقع بأبعادها الثلاثة. ولن تخطئ ذلك [email protected]
إذا تابعت لوحات الرسامين وتماثيل الناحتين. ذلك أنه أراد دائمًا أن تجىء الصورة مطابقة للمصَوَّر.
دلالة ذلك أن الثقافة الشرقية بشتى نواحيها من دين وأدب وفن وفلسفة ــ تعبيرات تخرج ما يضطرب فى النفس والوجدان.
على حين أن الثقافة الغربية، بكل ألوانها من علن وفلسفة وفنون ــ لا تخلو أبدًا من الرمز إلى ما هو كائن خارج النفس بكل ما فيها من جيشان.
يقول الدكتور زكى نجيب محمود:
«فكأنما الفنان الشرقى حين يصور لك شيئًا فإنما يريد لك أن تقف عند المادة المعروضة لذاتها وفى ذاتها، لأنها هى نفسها الحق كله، واما الفنان الغربى ـــ وأعيد هنا مرة أخرى أننى أستثنى الثورة الأخيرة فى الفن الغربى ـــ فيعرض لك أثره الفنى لا لتستمع به فى ذاته ولذاته، بل لتنقل بعد ذلك من الأثر إلى المؤثر، من الصورة إلى المصوَّر، من الرمز إلى المرموز إليه. كأن الصورة الفنية عنه ضرب من الكلام العلمى الذى يقال ليدل على أشياء تقع خارج الكلام نفسه ؛ فهى ليست مكتفية بذاتها لأنها ليست هى الحق كله، إنما يكملها الطرف الآخر الخارجى الذى جاءت الصورة لتصوره وتشير إليه ؛ فلو توسعنا فى القول بحيث نقول إن الرمز ــ كائنًا ما كان ـــ إذا أريد به أن يشير إلى مرموز إليه، كانت المنفعة هى أساس استخدامه، وأما إذا أريد به أن يكون نهاية فى ذاته ولا يرمز إلى شىء سواه، كانت النشوة الجمالية هى أساس استخدامه، أقول إننا إذا أطلقنا القول على هذا النحو الواسع، جاز لنا أن نقول إن ثقافة الغربى هى ثقافة المنتفع وثقافة الشرقى الأصلية هى ثقافة المخمور بعاطفته المنتشى بوجدانه، فالأولى هى ثقافة العالم، والثانية هى ثقافة الفنان».
www. ragai2009.com