الشرق الفنان
(14)
تلتقى كل ديانات الشرق الأقصى، فيما يبدى الدكتور زكى نجيب محمود، فى وجهة نظر واحدة مؤادها ما سلف : للكون روح واحد أزلى أبدى، تنبثق منه أو تنتمى إليه هذه الكائنات الأفراد فتقيم على السطح الظاهر حينا، ثم تعود فتندمج ــ كما كانت ــ فى ذلك الروح الواحد الخالد.
ثم يتابع الدكتور زكى نجيب الغوص فيقول: «إن هذه الكائنات التى تمر كأنها الظلال لهى من التنوع والكثرة بحيث يجوز لنا أن نتصور الجوهر الكونى أما ولودا، ما تنفك تخرج من جوفها ألوف الألوف من الصور، ثم لا تلبث أن تعيد ما أخرجته إلى جوفها من جديد ؛ إنها تخرج الفضيلة والرذيلة معًا، والجمال والقبح، والتقوى والفجور ؛ من جوفها يخرج الغضب والجشع والفتك والإجرام، ومن جوفها كذلك يخرج صفاء القديسين ونقاء الأطهار ؛ لكن جانب الفضيلة هذا إنما يخرج ليكون صورة معبرة عن روح العالم وهو فى سكونه وصمته، لأن السكينة والصمت هما من الكون جانبه الأبدى الذى لا تفسده العواطف والانفعالات والكدح العابث المغرور.
«وروح العالم إذ يعبر عن نفسه فى كلتا الصورتين: صورة الطمع والجشع والتناحر والقتال، وصورة العفة والترفع والسكينة والصمت والتأمل، إنما يهيىء للإنسان بذلك سبيلاً لتحقيق حريته بمعناها الصحيح، فليست الحرية الحقيقية هى أن تقر الكائن البشرى كما هو برغباته وشهواته، ثم تضع فى يديه وسائل العلم ليستغلها فى استخدام الطبيعة لصالحه؟ بل الحرية بمعناها الصحيح هى فى اندماج الإنسان بروحه فى روح العالم ليصبح جزءًا من مصدر الإمكانيات التى بوسعها أن تكون أى شىء على وجه التعين والتحديد؛ الحرية بمعناها الصحيح هى أن تخرج عن كيانك هذا الجزئى الفردى الذى تحددت صفاته وخصائصة ودخل فى نطاق الأشياء التى تحققت بالفعل ولم يعد فى حدود المستطاع أن يصيبها تبدل وتغير وحذف وإضافة ؛ الحرية الصحيحة هى أن تخرج من كيانك الفردى المفروغ من صياغته على نحو محدد معلوم، لتدخل فى نطاق اللامحدود واللامتعين، فتصبح جزءًا من الأم الولود التى تلد صنوف الكائنات، فتتجده لك حرية الاختيار فى أن تكون شيئًا لم تتم بعد صياغته».
كثيرًا ما يحلو لبعض الغربيين اتهام أهل الشرق بأنهم يفرضون على أنفسهم أغلالاً تحد من حريتهم، بإعتتقادهم فى القدر المرسوم، وهو تعبير مناقض للتعبير الاصطلاحى عن «القدرية»، وتعنى أن الإنسان هو الذى يقدر فعله بنفسه، بينما ما يقصده الغربيون الإيمان بالقضاء والقدر، وبأن أفعال الإنسان مقدره سلفًا، الأمر الذى يغل من حرية الشرقيين.
وتعقب النظرة العلمية الغربية والنظرة الصوفية الشرقية إلى أصولها، يثبت العكس. أن مغلول الحرية هو صاحب النظرة العلمية الغربية. ويدافع الدكتور زكى نجيب محمود عن رؤيته بأن العالم الذى يعتنقه الغربى ويلتزم به فى كل ميادين المعرفة، ويرى أنه يشكل معرفة العالم معرفة كاملة، إنما ينتهى به إلى تحديد كل صفات العالم وخصائصة، وهذا يخرجه من دائرة « التحقق » ومن ثم يمثل أغلالاً على حرية التفكير والنظر.
بينما وجهة نظر الشرقى، أو النظرة الشرقية الصوفية، ترى إمكان أن يعود الأفراد إلى الإنغماس فى المصدر اللامحدود اللامتعين، وهو ما يمنح الحرية ولا يقيدها، ويعنى إمكان أن يصدر عن هذا «المصدر» سيل آخر من الكائنات التى لا سبيل لتحديد صفاتها قبل صدورها.
معنى ذلك، أن الاحتمال الدائم ــ فى النظرة الشرقية ــ بأن تنشأ مخلوقات جديدة مبتكرة عن الجوهر الكونى.
كما أن الكون كله فيه هذان الجانبان : جانب المصدر المبدع الخلاق فى خلوده وثباته، وجانب المخلوقات الجزئية التى تم تكوينها على صورة معلومة.
كذلك الإنسان الواحد. فيه الجانبان: جانب سلوكى جزئى هو الحياة العملية التى يحياها ويسعى سعيه فيها لتحقيق رغباته وتمنياته وآماله. وجانب آخر هو الصمت والتأمل.
ولو استطاع الإنسان الفرد أن ينجو من تيار الحياة العملية المضطربة، ليخلد إلى ذاته فى سكينه وتأمل، لتحققت له الحرية بمعناها القويم.
www. ragai2009.com