من تراب الطريق (1105)

من تراب الطريق (1105)
رجائى عطية

رجائى عطية

8:04 ص, الثلاثاء, 25 مايو 21

الشرق فنان

(3)

من العلم العام، أن الشرق كان مهبط جميع الأديان السماوية، بل وشاعت فيه أيضًا الديانات الوضعية كالبوذية والكونفوشية، هذا إلى شوارد المجوسية وغيرها.

والدين والفن كلاهما مما يتذوقه المتذوق، ولا سبيل إلى معرفة كل منهما حق المعرفة إلاَّ أن يحياهما الإنسان حياة نابضة بقلبه ومشاعره.

لذلك فلا يكفى هذه المعرفة الصحيحة ـ قراءة التلخيصات أو الشروح التى إن وصلت العقل فلا تتسلل إلى القلب، ناهيك بأن تستقر فيه.

ولذلك أيضًا فثقافة الشرق الأصيلة، لا يوصل إليها إلاّ بالمكابدة والمعاناة، فهى ليست كالعلم النظرى وصفًا وتحليلاً.

معرفة طبائع الأشياء فى ثقافة الشرق، لا تدرك بالظواهر المتبدية للعين من الخارج ؛ وحال الراغب فى إدراكها كحال العاشق ـ إن جاز التعبير ـ لا يعرف شوقه إلاّ من يكابده مثله.. ولا صبابته إلاَّ من يعانيها، لذلك كانت هذه المعرفة بالمكابدة والمعاناة، وهى ممارسة وخبرة، وليست بالتجارب المعملية التى تجرى فى المخابر ومن وراء المناظير والعدسات.

وهذا على خلاف المعرفة العلمية النظرية التى هى طابع التفكير الغربى بعامة، لأنها تريد أن تنتهى ـ آخر الأمر ـ إلى قوانين ذات صياغة رياضية.

وفى هذا قد تختلف الفلسفة الغربية عن الفلسفة الشرقية.

الفلسفة الغربية تستند فى سياقها إلى استدلالات منطقية تخاطب القارئ عقله لا قلبه. فهى لا تدعى إثارة خيال القارئ أو المتلقى، وإنما هى تلجأ إلى العقل تقنعه بسببية المقدمات فى النتائج.

وليست الفلسفة الشرقية القديمة كذلك، تلك الفلسفة التى قال أصحابها إنها تعبير عن ذوات أنفسهم قبل كل شىء؛ ومن ثم لا عجب أن كان هؤلاء حكماءً أكثر منهم فلاسفة بالمعنى الغربى لهذه الكلمة.. ولا تصادر الحكمة على الفلسفة.

والقول بأن الفلسفة بدأت عند اليونان، لا ينكر حكمة الشرق القديم، كما أنه لا ينكر فلسفة الشرق الحديثة.

والمهم ـ فيما يرى الدكتور زكى نجيب محمود ـ التفرقة بين النظرتين :

نظرة تقيم البراهين وتسلسلها مقدمات ونتائج . وهذه هى نظرة العلم الصِّرف.

ونظرة تستوحى وجدان القلب وصفاء البصيرة. وهذه هى نظرة الفنان.

الفرق إذن بين ثقافتى الغرب والشرق التقليديتين : أن ثقافة الغرب تصف الحياة لغير صاحبها، بينما الحياة فى الشرق يحياها صاحبها. الجانب الذاتى غير حاضر فى نظرة الغرب لذا يعنى بالحجج والقياسات والأدلة والبراهين، مادام هدفه استخلاص القوانين النظرية. بينما هذا الجانب الذاتى حاضر حضورًا أساسيًّا واضحًا ملموسًا فى نظرة الشرق، وتستطيع أن تقول فى نظرة الشرقى الصوفى الفنان.

ينقل إلينا الدكتور زكى نجيب محمود، قالة حكيم قديم من الشرق الأقصى حين طفق يعلّم تلاميذه ألاّ يأخذن أحدًا منهم خزٌى أو شعورٌ بالدونية بسبب طعامه البسيط أو الغليظ وثوبه الخشن ومأواه الفقير، فالخزى خليق فقط بمن لا يجد فى ثقافته ما يدعوه إلى إدراك الوجود إدراكًا جماليًّا تستروح به النفس وينعم به الروح، ونعيم الروح أبقى وأقوى إحساسًا وتأثيرًا من أى نعيمٍ مادىّ، بل قد يأخذ التنعم المادى ولا يعطى. ومما قاله ذلك الحكيم فى هذه المعانى : عشْ على أرز وماء، متخذًا من ذراعك المطوية وسادة، تكن نشوة النفس والروح نصيبك، وأما الثراء الذى ساءت وسائله، والأمجاد التى جاءتك عن طرائق السوء، فكالسحائب العابرة، لا خصب منها ولا نماء!

www. ragai2009.com

[email protected]