تحرير سعر الصرف اقتصاديا يعني، ترك سعر صرف العملة خاضعا لآلية العرض والطلب، بما يُعرف بـ«التعويم الخالص» بترك تحديد هذا السعر لهذه الآلية مطلقا بدون تدخل الدولة، أو «تعويم موجه» بترك ذات التحديد قائما، مع تدخل الدولة ببنكها المركزى حسب الحاجة، لتوجيه أسعار الصرف.
فكرة المصطلح الجديد (تحرير دخل الفرد) ـ قياسا مع الفارق بتحرير سعر الصرف ـ هى ترك تحديد قيمة وأنواع دخل الفرد، تبعا لآلية العرض والطلب، طبقا لقيمة وجودة الأعمال والخدمات المقدمة منه، ويحّصل منها وأسرته النقود، كوسيلته الوحيدة لأداء واجباته ومسؤولياته.
تعرض المقالان السابقان لأزمة دخل الفرد وسجنه داخل شرنقة نظم اقتصادية وسياسية، أثمرت تعلقه شبه المطلق بالدخل المكتسب للوظيفة الحكومية أو الخاصة، الذى لا يسد احتياجاته نتيجة الظروف الاقتصادية والسياسية الدائرة لعهود طويلة، والمثمرة لفردا غير مؤهلا، بدون امكانيات، ضعيف القيمة وكثيرا غير موهوب، ولكنه يضطر لتنويع مصادر دخله، باعمال وخدمات خارج آليات العرض والطلب، فيضيف نقودها لدخله المكتسب لمواجهة ظروف الحياة. ونظرا لشيوع وتغلغل اثار هذه النظم السياسية والاقتصادية مجتمعيا، نشأ قبولا صامتا لعملة جديدة اسمها (معلش)، سمحت بقبول تعدد صور الدخل بدون ضوابط، بنتائج معوقة.
المعضلة الحقيقية؛ ان المناداة بتحرير دخل الفرض مُطلقا، سيُوقع اغلب الافراد باختبارات الآلية الشرسة لسوق العرض والطلب بالمرحلة القادمة لنهايات الربع الأول من القرن 21! إن خطوات إعداد مصر لتكون مركزا عربيا/أفريقيا منافسا بالأسواق العالمية، سيجعل العنصر البشرى مع تمنى تحسن الأحوال ـ بمواجهة صادمة مع متطلبات وشروط طلب العمل أو الخدمات وفقا للمعايير الدولية!
للمصرى تركيبة خاصة طبقا لمنظومة التعليم والإعلام والتدريب المتوارثة! تركيبة تجمع الذكاء الفطري، مع التعليم الهش، مع التدريب النظري، مع الإمكانيات المحدودة، وتمزج الكل ببوتقة مصرية خاصة تعرف بالفهلوة والشطارة! النتيجة اقتناع المصرى بقدرته لعمل وبلورة واختراق أى شيء، وحقيقتها ضعف محصوله المعرفى وتشتت وعيه الثقافى الإعلامى وافتقاده لتدريب حقيقى مثمر بنتائج محددة.
عندما أقول (المصري) أقصد كل فرد ينخرط بمنظومة التعليم المصري، ويشاهد التلفاز والفضائيات ويتعاطى منصات التواصل الاجتماعي، ويتخذ شهادات التدريب كمسوغ تعيين فقط!
وبالتالى ما المتوقع عند فتح الأسواق، وبزوغ استثمارات، واستغلال الآخرين لموقع مصر وبنيتها التحتية المطورة ويطلبون عمل أبنائها؟ لو استمر اقتحام الفرد لمجالات تنويع وزيادة دخله بدون ضوابط وبدرع الفهلوة، فلن تصل قيمة دخله النقدى لمرتبة تساوى قيمة الاستثمارات المتدفقة لمصر! وللأسف سيظهر كالمتطفل على (الأغراب) الهادفين (لطردنا من بيت أبونا)!
للأسف؛ إنه الوجه القاسى لمصطلح تحرير دخل الفرد! فآليات السوق للعرض والطلب المستقبلى حتما ستطلب؛ التخصص، الجودة، الانضباط، التطوير الذاتي، الوعي، الدقة، احترام مفهوم الزمن، التزام فريق العمل، تقبل الآخر، الموضوعية الفكرية والدينية والثقافية. تحدد هذه المتطلبات عرض وطلب خبرات الفرد بالأسواق العالمية وبدورها تُشكل أنواع وقيم دخله وأى مصادر أخرى يعتمدها لسداد التزاماته الحياتية بعدالة.
حقيقة مصطلحى تحرير دخل الفرد؛ هى مبادرة قومية لإعادة النظر بمثلث مصدر الدخل الحقيقى للفرد، ألا وهو التعليم والإعلام والتدريب. بضبط أضلاع المثلث، سيتحقق لنا مُنتج بشرى جديد، قابل للمنافسة طبقا لآليات العرض والطلب العالمية.
يلاحظ أن المطالبة بتحرير دخل الجيل الحالى بمايو 2021 ، سيكون غير موضوعي! فللأسف الإفرازات الحالية للتعليم (المحتوى التعليمي، منهجية التعلم، ماليات التعليم، إنتاج المُعلمين، قيم المُتعلمين) والتدريب (خطة الدولة، مراكز تحت السلم والشهرة، ضعف التوعية بمفهوم التدريب) والميديا (الفن المرئى والمسموع، منصات التواصل الاجتماعي، الإعلام) ضربت بمقتل 3 أجيال على الأقل! الأمل الحقيقى تصميم منظومات معالجة جديدة، تتبنى مواليد 2015 ضمن خطة قومية حقيقية لإنتاج مواطن مصري، مؤهل لمصادر دخل حقيقية بضوابط ومتطلبات آليات السوق العالمية.
كذلك؛ فمن الصحى لمنظومة المعالجة الجديدة اعتبار وتقسيم المصرى الحالى للفئات العمرية من 22 لـ 45، بمحاولة عمل تصحيحات موضوعية بمنهجية التعليم ورسالة الإعلام والمحتوى الثقافى والإعلامي، الموجه لبروزة السواد ونحت فن مشوه وثقافة مبتورة. تحرير دخل الفرد الحقيقى يكون بتدخل الدولة كأم واعية تستدرك مصالح أبنائها الفاسدين والعاقين والمشتتين والمُضللين والضالين، فلا يصلون لمرحلة المغضوب عليهم المستحقين العقاب!
تحرير دخل الفرد، سيكون بتأسيس معنى جديد للفرد، يستهدف معالجة أُسس تكوين وعيه وقيمه ومعلوماته وسلوكه، بما يثمر تحرير وعيه الجمعى بمشاكل مجتمعه وتنميته ودور الدولة ودوره بنهضتها، لينعكس حتما على عمله وقيمه وسلوكه بمنظومة العرض والطلب الجديدة.
قد يُبدأ ذلك بإطلاق مشروع قومى للمصرى الجديد، مدته 20 سنة ـ موازيا للنظم الجارية ـ ويُنفذ مكانيا بسيطرة واعية، بأحياء كاملة متكاملة بالعاصمة الإدارية والمدن الجديدة (مثل تجارب المدارس التجريبية والنموذجية) ولكن بمنظومة شاملة لا يلوث فيها محل التجربة بمثلث الضعف الحالي! ببساطة تخطيط لمجتمع جديد ينتج جنودا مستقبليين.
الأمل فى تبنى نُظم خبيرة تستهدف التنظيم البشرى Human Design لمواجهة المستقبل، بغير ذلك فتحرير دخل الفرد ينتظره مستقبل مُعاق، ولن يصمد أمام آليات عرض وطلب قادمة حتما، وستلفظ الفهلوة المصرية الأصيلة.
لنبنٍ المصرى الجديد، فنحرر دخله بجدارة وكرامة.
- محامى وكاتب مصرى