ما نشهده من حملات نفاق، في العديد من الصحف القومية، بمناسبة دنو موعد الانتخابات الرئاسية، في شهر سبتمبر القادم، أمر لا يبشر بالخير، ليس فيما يتعلق بتأثيره على العملية الانتخابية، فالمسألة كلها محسومة، وليست في حاجة إلى هذه الموشحات والوصلات من الأساس، سواء على مستوى النتائج، أو آليات الانتخاب، أو الإشراف عليها، أو حشد جيش البيروقراطية العتيد في مواقع اللجان، لحسمها بكافة الوسائل.
ولكن خطورته الحقيقية، تنبع من مدى تعبيره بوضوح عن عدم وصول بعض الإشارات، التي تصدر من جماعة الإصلاحيين داخل الحزب -أحيانا- إلى أغلب القيادات الصحفية الجديدة، أو على أقل تقدير، تشوش هذه الإشارات في أذهانهم.
فبالرغم من مرور عدة أسابيع على رحيل القيادات القديمة وإحلالها بأخرى جديدة، وما تصوره البعض -لست واحدا منهم- من أن اختفاء هذه القيادات التاريخية، يمثل مقدمة واضحة لتغيير وشيك، على مستوى الإدارة التحريرية لهذه الصحف، إلا أن شيئا من هذا لم يحدث، ولم تظهر بوادره سوى على استحياء، وفي بعض الحالات، ولبعض الوقت، وليس كل الوقت.
لقد بات من الواضح، أن العقلية الجمعية للوسط الصحفي داخل هذه المؤسسات، لا تستطيع أن تصدق، ناهيك عن أن تستوعب، فكرة أن معايير تقييم المالك للكوادر، وبالتالي عملية الحراك المهني لها، وبقائها في مواقعها، يمكن أن تتغير، أو أن تنحرف قيد أنملة عن هذه المعايير، المتأصلة والمتجذرة في أعماق هذه المؤسسات، تجذر النفاق في الدواوين الحكومية، والرشوة في المحليات، والتزوير في الانتخابات، والدروس الخصوصية في المنظومة التعليمية.
ويكفي أن تتصفح عددا واحدا من بعض الصحف القومية، لتستشعر من خلال ما يسطره العديد من الأقلام، هذه المباراة الساخنة في إبراز المواهب في التبرير والتهليل، واستكشاف مناطق غير مأهولة في ميادين النفاق، عسى أن تلتقط تفردهم- ولو على سبيل الصدفة- عين خبيرة هنا أو هناك، لتدفع بهم في أعلى المناصب.
أعلم أن شريحة كبيرة من الصحفيين داخل هذه المؤسسات، لا ناقة لها ولا جمل في هذه المعركة، ذلك أنها قد ألقت الفوطة مبكرا، ورفعت راية الاستسلام، وقررت منذ أمد طويل، وربما منذ توقيع عقد التعيين، أن تكتفي بهذا القدر من الضمان الاجتماعي، وتبحث لنفسها عن مورد شريف لكسب الرزق، بعيدا عن صراعات، ليست لديها القدرة النفسية على كسبها، ولا تلك الملكة الأخلاقية، التي تجعل صاحبها لا يجد وجها للاستحياء، مما يرتكبه من تزلف، وتكسبه بالتالي القدرة على الصمود حتى النفس الأخير من عمره، وليس من خشائه.
إلا أن هذه الحالة الانسحابية للأغلبية الصامتة من المحررين، تؤكد حقيقة أن هذا الوعى الجمعي، لم يتغير ولن يتغير، سوى بقوى ديمقراطية إصلاحية «غاشمة»، تتخذ إجراءات تثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن هناك حزبا وأن هنالك حكومة، قد استكفيا وشبعا نفاقا وخداعا، وباتا على قناعة، بأنه ليس في مصحلتهما -قبل أن يكون في مصلحة المجموع-، استمرار الحال كما هو عليه.
على الجانب الآخر، أعلم أن نفرا من جماعة الإصلاح بالحزب والحكومة، يمتلكون رغبة ما، في إصلاح الأحوال المالية والإدارية والتحريرية لهذه المؤسسات، بل إن بعضهم قد سئم -إلى حد الملل والقرف- المطالعة اليومية، لما يتم خطه من سخافات، إلا أن المدى المحدود، لتواتر الإشارات الدالة منهم على رفضهم لذلك، يساهم إلى حد بعيد في تفشي الوباء.
والأخطر من ذلك، أن عملية الفرز والانتقاء على مستوى الحزب والمؤسسات الحكومية، لا تزال تعطي إشارات مضادة، باعتمادها في الكثير من الأحيان، على اعتبارات الولاء والاختيارات الفوقية النخبوية بعيدا، عن القواعد التحتية، وليس القواعد بمعنى المعايير الموضوعية، التي لا وجود لها من الأساس. «
أما الكارثة، فتتمثل في استخدام الجماعة الإصلاحية، لنفس آليات التصعيد والمكافأة القديمة، ولكن في أشكال جديدة، وذلك بخلق طبقة من الإعلاميين والصحفيين والشخصيات العامة، يتم استمالتهم، للعب أدوار المستقلين والمنتقدين أحيانا للنظام، حتى يكون المسرح مهيأ، لاستخدامهم في التأييد والدعم في الوقت المناسب.
وهكذا حل «المستقلطيون» تدريجيا، محل البيروقراطيون فى خدمة الحكومة والحزب، وباتت الجوائز أكثر نفاسة وقيمة وبريقا، فبدلا من منصب حكومي وجيه يقنع به البيروقراطي عن طيب خاطر، صارت الجوائز مراكز ومجالس حقوق إنسان وحماية مستهلك وصحفا يومية مستقلة وقنوات إذاعية وتليفزيونية احتكارية، يتم منحها لمن يشاء العليم القدير.
إن «إصلاح» المؤسسات الصحفية، يتطلب إتباع إجراءات صارمة من جانب فريق «الإصلاح» -إذا كان صادق العزم والنية-، ولعل في مقدمتها وأكثرها إلحاحا، القيام بعملية تقييم شاملة، لأداء القيادات التحريرية الجديدة -والذي برهن البعض منهم انهم أكثر قدما وحلاوة وطراوة من أي قيادة قديمة آفلة-، وذلك عقب الانتهاء مباشرة من الأنتخابات الرئاسية، المقرر إجراؤها في شهر سبتمبر القادم.
على أن يلي عملية التقييم، إجراء تغييرات جديدة، يتم خلالها، استبعاد من أثبت فشلا، أو بمعنى أدق من حقق نجاحا مبهرا، في السير على درب أسلافه.
على المدى القصير، سيكون ذلك كافيا، لخلخلة هذا الاعتقاد اللعين، الراسخ في أذهان الزملاء في المؤسسات القومية، بأنه لا ثمة أمل في الغد، وأن الانبطاح لا يزال هو سيد الموقف في حركة الترقي الوظيفي داخل المؤسسة.
أما على الأجل الطويل، فلا بديل عن التحرير الكامل لوسائل الإعلام، وإطلاق حرية تملكها وإصدارها وبثها للجميع وبدون تمييز، بعيدا عن سياسة النفخ للمستقل المضمون اللي معانا، والنفخ لما عداه من «مستقلين»، أو حتى أعداء صرحاء غير مستقلين.
ذلك أن هذه الحرية هي الوحيدة الكفيلة، عبر ما تطلقه من منافسة، بإصلاح حال الإعلام والصحافة والعباد، الذين لا يزالون ينحرون بعضهم بعضا على صفحات الجرائد والمجالات يوميا، لإثبات الطاعة والولاء.