يقول سارتر (المثقف من يتدخل فيما لا يعنيه ويمتلك القدرة على الجهر بالحقيقة)! والأمن القومى كمحور، لا يقبل التدخل او التطفل عليه! فهو عصب الدولة بنظرياته ومؤسساته ورجاله، ولكن كمواطن يفتتح 2022، أتدخل لأجهر للعموم بحقيقة حتمية فهمنا وتقديرنا لهذا المحور، وأهميته فى تمتع حياتنا بنعمة الاستقرار الحالى، وسط زخم من الأعاصير. درج فهم العموم ربط الأمن القومى بحماية الدولة لأمنها الداخلى والخارجى بالقوة العسكرية (الجيش والداخلية)، ولكن مع تطور قوى قائمة، لصور قوى جديدة بجانب القوة العسكرية، مثل القوة الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، الدبلوماسية، التكنولوجية، تمدد مفهوم (الامن القومي) لتتكاتف فيه هذه القوى مع القوة العسكرية، فى العلاقات الدولية والصراع العالمى. من هنا طل المثقف برأسه ليتدخل فى رصد هذا التمدد، ومحاولة استيعاب المصالح المصرية/العربية فى منظومة الامن القومى العربى.
تقسم أجهزة الأمن القومى كشبكات أمنية وعسكرية بصفة عامة إلى (أ) المخابرات العسكرية والمخابرات الجوية كأذرع الجيش والقوات المسلحة (ب) المخابرات العامة والأمن الوطنى والأمن السياسى، كأذرع للقوة المدنية. ينوأ كاهل هذه الأجهزة بحماية الامن الداخلى والخارجى للدولة، بهدف تمكين استقرار الدولة لتحقيق تنميتها الشاملة، على مستوى محاور -1 أمنها الاقتصادى بحماية منشآتها الاقتصادية ومصادر ثرواتها والمحافظة على التوازنات الاقتصادية -2 أمنها الاجتماعى بتأمين الحريات والاحتياجات الأساسية للمواطن وتماسك الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى -3 أمنها الأيديولوجى بحماية المواطنين من الغزو الفكرى والثقافى والتطرف العقائدى او السياسى او الدينى -4 أمنها العسكرى بحمايتها ضد التهديدات العسكرية الداخلية او الخارجية، من خلال تنمية وتطوير قواتها المسلحة والشرطية وضمان حيادهما لصالح الوطن والمواطن كدرع الدولة 5 – أمن بيئى لمنع تفاقم التلوث البيئى أو تسرب النفايات النووية للدولة.
تتقاسم الدول – بما فيهم العربية – وجود هذه الأجهزة داخليا ويجرى التنسيق بينها لتحقيق تبادل المعلومات والخبرات فى الملفات المشتركة، ليبقى مفهوم (الامن القومى العربي) ظاهرة يلزم تمريرها للمواطن العربى، ليستوعب خطورة الوضع الحالى والقادم على مستوى عقله وعقيدته وثقافته ومستقبله! لإدراك هذه الخطورة نسترجع أساسيات الجار الشرقى فى حرصه على تفتيت المنطقة بأسس طائفية ومذهبية وقبلية وحزبية، ليثمر تنافر شعوبها قطوف سيطرة الجار على مستقبل المنطقة! يؤسس الأمن القومى للجار الشرقى على ثبات المبادئ/مرونة التطبيق/وضوح الأهداف/الاجماع القومى على العناصر/الترتيب التصاعدى للقواعد! لذلك حرص الأب الروحى للجار على ثبات 3 مبادئ! رفض أى اتفاق أو تنسيق عسكرى حقيقى بين أى دولتين محيطين به/ رفض أى محاولة لإغلاق الممر المائى رفض أى وجود عسكرى حقيقى فاعل على أرض القمر!
تحقيقا لأمن قومى عربى مفتت؛ استُكملت مرحلة التقية فيما قبل 2011، للربيع العربى بروافده فى تونس وسوريا والعراق ومصر واليمن وليبيا، مع تراجع الاهتمام بالوضع الفلسطينى أمام الشؤون الداخلية العربية، حيث نجحت المساعى لتفتيت استيعاب الإرادة العربية لامنها القومى العربى المُجمع، بالانشغال بالداخل، دهس الثقافة العربية وتمييع الوعى الجمعى العربى. رغم ذلك فالجار الشرقى لم يعد يسعفه مفهوم الردع القديم أمام الضربات الجادة، ولم يعد لأسلوب الحرب الخاطفة ك 67 جدوى أمام التطور الحالى، وحرب المدن لا يقدر عليها، والزيادة السكانية المصرية مفزعة خصوصا نسبة الشباب! الأمر الذى طور منهجية التغلغل بالكيان العربى على مستوى الوجود الثقافى والتعليمى والتكنولوجى والعقيدى، ليشمل تحريك تفتت الأمن ليتوغل فى هذه المحاور، ولا يكتفى بصراع الأرض، لينتقل لإدارة الموارد تمهيدا للتحكم فيها وبخاصة المياه والنفط والكهرباء. من هنا يفهم التحالفات المتعددة بالمنطقة لتغيير هوية الوجود من الصراع الوجودى، الى التقبل المستقبلى والتعاون التبادلى.
الى جانب الوضع السابق مع الجار الشرقى، نجد عدة محاور/تهديدات/مصالح أخرى تحدد منظومة الأمن القومى العربى وتؤثر فى مجريات داخله! بداية من ايران، تركيا، اثيوبيا – يتوازى مع هذه الاعتبارات، التهديدات والمصالح الامريكية والروسية والصينية والأوربية بالمنطقة العربية، خاصة بعد مشروع طريق الحرير الصينى وتوجهات قمة مجموعة السبعة فى 2021 نحو مستقبل التنمية فى العالم الثالث بما فيها المنطقة العربية.
فى ظل هذه القراءة السريعة من مثقف متطفل لمفهوم الأمن القومى التقليدى وتحدياته لبُعده العربى، نجد أن تطور صور القوى الجديدة، مثل القوة الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، الدبلوماسية، التكنولوجية، تحتم وضع حسابات هذه القوى فى منظومة التهديدات السابقة من خلال تشابك وتقاطع وتعاون وتصالح المصالح فى العلاقات الثنائية والمجموعية لدول المنطقة، بما يؤثر حتما على أمنها العربى الإقليمى. الفكرة أن هذه الصورة الأفقية والرأسية غير متوفرة بوضوح كافى لرجل الشارع العربي! فاذا كانت واضحة أو متوفرة على مستوى الأجهزة العربية، إلا أن وجود ونمو وعيها الجمعى العربى قاصر ومخترق على مستوى التقنية والتعليم والثقافة، لدرجة احتياج الشعوب لمخابرات ثقافية وعلمية وفنية، تحفظ أمن الوعى الجمعى العربى، وتتداوله كقوة ناعمة يتم ترجمتها فى مشاريع يكون لها ذات تأثير السينما المصرية فى ثقافة شعوب الدول العربية! لدرجة أن الأمن القومى العربى الجديد، يحتاج نظرة من الأجهزة العربية لرصد اختراق المواطن العربى على مستوى الفن والتعليم والدين والثقافة، بما يحتاج معه لتوعية من نوع جديد! عندما يكون ضرب الكعبة المشرفة أحد الأهداف فى لعبة كمبيوتر للأطفال والمراهقين، فهذا السند الأمنى الذى يحتاج تدخل النظرة الجديدة لإيقاظ الإرادة العربية لإعادة صياغة مفهوم الأمن القومى العربي!
فى تقديرى أن بدايات 2022 ستشهد محاولات اكثر شراسة وعمق وقوة، لتفتيت الأمن القومى العربى الواقعى، فتجاوز تأثير مصالح الجغرافيا الى الديموغرافيا سيكون هاجس مصالح وتهديدات المنطقة، وبوادر الحلول ستجد فى الغد منفذا للشروق.
* محامى وكاتب مصرى