هل حب الله سبحانه للبشر وحبهم له، كحبهم لبعضهم؟
حب الله عز وجل والمحبة الإلهية، بحر عميق قَلّ فيه من نجا، فلا يحيطون بشيء من علمه فيه إلا بما شاء!
ورغم أن لفظ ومفهوم الحب، وارد فى كل الكتب السماوية والمذاهب الاجتماعية التى عرفتها وتعرفها وستعرفها البشرية، إلا أن أساس عاطفة الحب هو (العلاقة) وهى دوما ثنائية، فهل للكلمة عمومية التطبيق فى معانى العلاقة بين إنسان وإنسان وبين الله والإنسان؟ ام أن اللفظ والأحوال مشتركة ولكن المعنى والدرجة مختلفة؟
علاقة الحب «بيننا كبشر»، يعتريها صفات أمزجتهم المرهقة والموجعة! فهناك الوَجد عندما يرافق الحب التعاسة وإدمان التفكير، والصبوة بالميل للجهل والتجاهل من لهفة الحب، والنجوى بمرافقة الحب للحزن والحرقة أشد من الوجد، والشوق بسفر المحب لحبه بقلبه وخياله وعقله، والوصب الذى يصل فيه المحب للألم والمرض، والاستكانة التى تخضع فيها الجوارح والعواطف للمحبوب، والغرام الذى يصل لإلزام وملزومية مرافقة الحبيب.
فإذا كان هذا حال حب البشر، فهل درجاته وأحواله تستوعب حال (يحبهم ويحبونه)؟ وإذا كان حب البشر بين متكافئين فى الوجود، فهل يكون بنفس معناه مع خالق الوجود ذاته وهو لم يكن له كفوا أحد؟ درج البشر للفهم والاستيعاب، نقل معانى كلماتهم من الأصغر للأكبر، من الخاص للعام أو بالعكس، ولكن فى حب الله الأمر جد مختلف.
من حب الله سبحانه لآدم خلقه بنفخة من روحه، وكرّمه بسجود الملائكة له، وجعله خليفته فى الأرض، فكان حب الله لآدم واصطفاؤه هو قبس الحقيقة التى سيظل آدم وبنوه أبد الدهر يسعون لإثبات جدارتهم بها (بأن يكونوا خلفاء، ليعودوا لمرحلة الحبيب الأول، الذى سجدت له الملائكة). حب الله وخلقه لآدم كان البداية، بلا علاقة، بلا احتياج من الخالق، بلا مردود. حب الله أكمل وأجمل صورة ذهنية لمعنى الإنسان، يكون قد عرفها أو يستوعبها يوما ما!
الحب الحقيقى لله عز شأنه من المخلوق للخالق لا تكافؤ فيه، لا علاقة أو عشرة أو مودة! حب الله يقوم على 3 أركان؛ الطاعة والمعرفة والمحبة. الطاعة لأوامره ونواهيه، المعرفة لحقوقه والبحث عنه داخل ذاتهم، فإذا أطعته وعرفته.. أنار فيك محبته، بأن جعلك أهلا لحبه، لفهم نعمه، لشكر منحه، للدخول فى معية لطفه، فتنتقل بين الدرجات من عفوه للطفه بقوة كن. فتكون مَعِيَّةُ اللَّهِ؛ حَالَ مُرَاقَبَةِ وُجُودِهِ فِى حَيَاتِكَ! وَمُصَاحَبَةُ الْحَبِيبِ أَلَّا تُغْضِبَهُ قَدْرَ الِاسْتِطَاعَةِ! لتبقى الطاعة سلوكا فى الزمن ينصلح به مكانك.
عندما قال سبحانه (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) -الذاريات 56 – جعل العبادة سر الوجود ليتحقق القرب، وهل من عبادة أعمق من محبته بالطاعة والمعرفة والمحبة؟ الصفات الإلهية فى جميع الأديان تربأ به عن مشاعر البشر وأمراضهم العاطفية، فلا كره أو بغض أو تجاهل أو إرهاق. عرف الحب البشرى أمراضا نفسية كالهوس الشبقى والحب الهوس واضطراب المرافق والوسواس القهري، لأنها أحوال تناسب ضعف المخلوق وعدم كماله وارتباطه بالأسباب.
فى حين حب الله هو أكمل ارتباط وتعلق، لا يعرفه أو يصل له إلا من شد له الرحال، بسلوك درب الطاعة ومعارج المعرفة ليصل لسدرة المحبة. العديد منا يخلط فى حب الله بمفاهيم البشر، فيسلك الدرب ويقف فى منتصفه، فيحبه على حرف! فإذا وفق وسعد فالله يحبنى وإن شقى وتعس فالله أهانني!
إن شئت قل إن حب الله غاية بذاتها مجردة عن السبب والنتيجة، ولا تلتزم بالمشقة والمعاناة والكد، إلا فى تحرى طاعته. وكلما مر الزمن وأخذت الدنيا زخرفها وانكب النظر على الأسفل ونأى عن الأعلى، كلما شقت الطاعة وعظمت، وأوجد لها آدم مبررات خروج وأسباب تأجيل وروية وتحوير وتحليل. ومع ذلك تبقى محبة الله قائمة فى سرمدية وصف «يحبهم» بطريق إقبال من «يحبونه». حب الله أرقى وأكثف عبادة لبنى آدم، القليل من أطاعه، والأقل من عرفه، والأخص من أحبه حقا. ومع ذلك فسرمدية عبارة (يحبهم ويحبونه) تجعل صدق محاولات المخلوقين مضمونة الأثر فى نهاية الطريق.
حب الله عطية ومنحة نتنفسها لحظيا، والقليل منا من يتنسمها ويتعرف عليها ويتبع مصدرها، فيدخل لبوابة طاعته، ليعرج لسلم معرفته، فيصل لمنصة محبته. لا تعارض بين حب البشر لبعضهم وحبهم لله سبحانه، إلا أنه مختلف لا يطبق عليه الأحوال الأرضية البشرية، ولكنه منهج منسوج فى وعى الإنسان بوجوده أصلا، فينتبه له، فيتغير بالسعى نحوه، فيتحرى الطاعة قدر إمكانه، فيكافح بشريته فى التزام هذه الطاعة، فيصارع دنياه لتثبيته عليها، ليُسمح له بمعرفته بإشراقات حسب احتماله وجدارته، فيرتقى للعيش بذكره وفى ذكره، ليطل القرب ويعرف الحضرة.
«يحبونه» درجة وهبة يتطلع لها كل البشر، كلٌ حسب مفهومه ومعتقده ودينه ودرجته، فـ «يحبهم» فعل إلهى كونى عالمى سرمدي، موجه لمن يلجأ له بقلب صادق ونية حاضرة ومراقبة واعية. حب الله لا يعرف سنا أو خبرة أو علما أو تأهيلا أو مكانة أو شهادة! حب الله رزق، مثل الهواء ومن عشم كونه حقيقة مؤبدة. نعرف قيمة الهواء فقط عند انعدامه، فلا حياة للإنسان بلا تنفس الهواء، ولا حياة للقلب بلا حب الله.
اللهم اجعلنا ممن تكون محبتهم لك تاجا لطاعتك وسترا لمعرفتك، ومن مستحقى حبك بكن وعلمك بلدُن لا ينتهي، وممن جعلت لهم ودا بلا حول ولا قوة منهم إلا ثقتهم بك وحبهم لك.
* محامى وكاتب مصرى