الحديث عن الخدمات بمصر يجب أن يكون بحساب!
مقومات أى دولة تتحدد بالأرض، الشعب، الحكومة، والسيادة.. فالحكومة شكل تنظيمى لإدارة مصالح الشعب على الأرض، باتخاذ قرارات ملزمة موحدة، تستهدف حفظ النظام والأمن والقانون اللازمين لتأمين واستمرار المصالح المشتركة، حيث تختلف منهجيات الدولة الاشتراكية أو الرأسمالية فى التعامل مع هذه المنظومة بما تقدره مُعبرا عن نجاحها فى وجودها.
ورغم اختلاف المنهجيات، فهناك ضوابط ثابتة لتعريف الدولة القوية والناجحة وتلك الغير ذلك، ويعتبر تأدية الخدمات للمواطنين بكفاءة من معايير الدولة الناجحة، بما فى ذلك الخدمات الأساسية كالأمن، سيادة القانون، حماية الممتلكات، ضمان الحق فى المشاركة السياسية، توفير البنية التحتية والخدمات الاجتماعية المختلفة كالصحة والتعليم الخ.
ولكن سيادة الدولة على أرضها بدون سلطة سياسية، قد يجعل من تأمينها لتقديم خدمات بعينها لمواطنيها محفوفا بالمخاطر؟ فلا يتصور أن يتولى أمن الدولة أو الشرطة أو الجيش قطاع خاص مثلا! ومع ذلك فالخدمات العامة يحددها الإتاحة للجميع وعدالة التقديم كالقوات المسلحة، المطافيء، التعليم، الصحة، الغاز، حماية البيئة، الكهرباء، الإذاعة والتلفزيون والأقمار الصناعية، ضمان تطبيق القانون (الشرطة)، القضاء، المكتبات العمومية، النقل العمومى، السكن الاجتماعى، الخدمات الاجتماعية، الاتصالات والبريد، التخطيط العمرانى، إدارة النفايات، شبكات توفير مياه الشرب، إنارة الشوارع، البنية التحتية (طرق وكبارى وموانئ).. حيث يترجم مفهوم السيادة والسلطة للدولة تقديم هذه الخدمات أما مباشرة بالقطاع العام أو بتنظيم خدمات معينة تضمن استمرار واستقرار حصول المواطن عليها بغض النظر عن مستوى دخله.
لرصد مفهوم الخدمات المقدمة من الدولة ومدى نجاحها؛ نحتاج رصد لمكونات منظومة الخدمات لتقييم فعالية وجودها للدولة ذاتها وللمواطن بوصفه المستفيد النهائى منها.
تتكون المنظومة من مقدم الخدمة (الدولة)/ واضعى الشروط ومعايير الجودة (الدولة)/ منفذى الخدمة (موظفى الحكومة والقطاع العام)/ جهة التدريب والتمتين (الدولة)/ مراقبى ومشرفى المنظومة (الدولة)/ جهة المحاسبة والمسؤولية (الدولة)/ تمويل تقديم الخدمات ورواتب منفذيها (الدولة) – المستفيد النهائى (المواطن).
من هنا يتضح تجميع الدولة بيدها المصدر والمسؤولية والثواب والعقاب والتكلفة والجودة! فإذا نجحت المنظومة بتوازن وعدالة وجودة وفعالية الخدمات المقدمة، فنحن بصدد مواطن راضى، مستفيد، مستقر، فيتفرغ لأداء عمله الأساسى الذى يدفع عنه ضريبة، تمول الدولة، فتنفق على الخدمات وتطويرها وتجويدها، فتستمر الدورة وهكذا، لتكون المحصلة دولة ناجحة، يحقق فيها الناتج المحلى نموه تصاعديا.
بالمقابل، لو نقص، تأخر، تعقد تقديم هذه الخدمات، أو ترهل تنفيذها أو جرحت جودتها وكفاءتها، فأول ضحية هو زمن المواطن، فقضاء حاجته، فرضاه، فاضطراره للتحايل لتحصيل الخدمة بصورة أسرع وأميز، فيظهر الفساد الإدارى وينمو خارج المنظومة.
تجميع تقديم الدولة بيدها وسيادتها للخدمات العامة أو تلك العامة القابلة للتخصيص، يجعل موظفيها (منفذى الخدمات المقدمة) تابعين لكوادرها المالية لأجور والحوافز، سواء كانت عادلة او مضغوطة أو مجحفة نظرا للظروف الاقتصادية السائدة، كذلك فانعدام المنافسة، تجعل خبرات الموظف متيبسة وجودة أدائه تقاس بطاعته للوائح لا إنجاز العمل، والمواطن محروما من مفاهيم الجودة المطورة وخدمة العملاء وعدالة المعاملة والسعر المنافس! فبقدر غُنم امان حصرية تقديم الخدمة بالالتزام باستقرارها واستمرارها، بقدر غُرم قبول المواطن لما يقدم بغض النظر عن جودته أو عدالته.
من جهة أخرى، لا مجال للمحاجة والمفاضلة بين السيادة والسلطة وبين مصلحة المواطن ورضاه، وإلا تفككت السيادة وماعت السلطة على حساب رضا المواطن وحسابات الرأسمالية بالعرض والطلب والربح.
نجاح الجمهورية الجديدة بصورة نموذج العاصمة الإدارية الجديدة والحكومة الإلكترونية ومحاولة ترويض النمر الورقى وسيولة المعلومات والبيانات وتسهيل الخدمات الحكومية، لن يحدث الطفرة الاقتصادية والاجتماعية والخدمية المتوقعة / المطلوبة، طالما استمر الفكر السياسى والاقتصادى والحكومى فيما يتعلق بمنظومة تقديم الخدمات كما هى حاليا!
استمرار مصر بمنظومتها الحالية بتسيد تقديم الخدمات، يعوق مفاهيم تحديد المسؤولية، تطور الخدمات وجودتها بالمنافسة المفتوحة، الربحية المنظمة، الإشراف الواعى، ضوابط أداء الخدمات، رضاء المواطن! ورغم وجود الهيئة العامة للخدمات الحكومية ومركز تدريبها كبيت الخبرة على مستوى الجهاز الإدارى للدولة بمجالات المشتريات والمبيعات (المزادات)، وإدارة المخازن، وإدارة مراقبة تشغيل السيارات الحكومية، إلا أننا لم نحل المشكل الرئيسية.
تجميع ضوابط المعايير القياسية للجودة + تقديم الدولة للخدمة + تنفيذها بموظفيها + إشرافها ورقابتها عليهم + تحجيمهم ماليا بهياكل أجورها + شيوع المسؤولية وعدم حسم المحاسبة من أجل تحسين الخدمة (يحتاج اتخاذ أى إجراءات مالية لمعاقبة الموظفين على أدائهم قرارا من وزارة المالية نفسها)، خاصة وأن التوظيف والتدرج الوظيفى بالخدمة المدنية ترعاه العلاقات الشخصية وليس الكفاءة والصلاحية! هذا التجميع محصلته بالنهاية استمرارا لمنظومة ٧ مليون موظف مقدمى خدمات عامة، مرهقين ماليا، مضغوطين نفسيا، مُشاعين قانونيا، محدودين إداريا، متطلعين معيشيا، معدمين تنافسيا، منوط بهم أعصاب حياة مواطن إما قادر أو فاسد أو غلبان أو معدم! النتيجة مصادمات/ شرعنة للرشوة / تبريرات للفساد / شراء الزمن والجودة بالمال / خلخلة العدالة الاجتماعية / تبادل عدم الرضى بين منفذ تقديم الخدمة والحاصل عليها! ليكون إما صراعهما أو تواطؤ وموالسة! والمظلوم الحقيقى هو الإدارة العليا للدولة التى لا تنام من حجم الضغوط الداخلية والخارجية والاقتصادية والأمنية والتنموية إلخ.
هذا إطار عام لتصورى عن قضية الخدمات العامة بمصر! فهل الحكومة الإلكترونية حلها، داخل ذات الصندوق الفكرى لربط السيادة بالسلطة بالخدمات بالموظف المكدود والمواطن الحائر؟ .
أم أن حلها قد يكون بمنظومة مطورة لفصل مالك الخدمة ومشرفها ومحاسبها، عن مقدم الخدمة، عن منفذها، لمصلحة المواطن و7 ملايين موظف حكومى وعام؟ وهل لهذا الفصل ضوابط ومخاطر ومراحل وسلبيات وإيجابيات؟ وهل هذا يعتبر خصخصة للخدمات العامة أم تخصص وتجويد للخدمة العامة بمعايير منضبطة ومخاطر وربحية محسوبة ورضاء متبادل وعصر جديد يليق بمصر الجديدة؟
أسئلة وأجوبة ومقترحات تحتاج للمناقشة فى المقال القادم!
* محامى وكاتب مصرى