هل أتى على مصر حينٌ من الدهر تسوّد أسودها؟ أتي! ويجتاح مصر غضب شعبى من التنكيل بأسود قصر النيل و20 تمثالا بميادين القاهرة، وغضب أكبر من رد فعل الإدارة لتبرير السواد! الواقعة مثبتة وموثقة واقعيا وعلى وسائل التواصل الاجتماعى، تلمع فيها الأعمال الفنية الخالدة تحت الشمس الكاشفة! ورغم وضوح الواقعة تحت بصر الجميع، فالجدل الدائر تنطبق عليه مقولة سقراط الخالدة “يميل الناس للمبالغة فى كل شيء.. إلا أخطائهم يرونها لا تستحق النقاش!”
الملاحظة الفنية صدرت عن متخصصين بتعليق حاسم ورد فيه (بدأ تنفيذ أعمال الصيانة بدهان أسود كوبرى قصر النيل، التى لوحظ فيها استخدام (الرولة) فى دهان التماثيل البرونز وهو ما يعد خطأ كبيرا، ومخالفا للقواعد العلمية والفنية لأعمال الصيانة ما أفقد التماثيل قيمتها الفنية وطمس (الباتينا) اللونية الأصلية لخامة البرونز لأعمال ذات قيمة فنية وتاريخية كبيرة، وصيانتها لا تتم بالطرق التقليدية وإنما تتم بطرق أكثر دقة لإزالة الأتربة الملتصقة فقط دون استعمال ورنيشات ومواد ملمعة أفسدت العمل على المستوى البصرى والتقني)! وأضاف المصدر (أمس بعد انتهاء وجودنا بالنقابة –نقابة الفنانين التشكيليين- وعند خروجنا من الأوبرا نفاجأ بمهزلة جديدة وهى دهان التماثيل برولة وبمادة لاكيه أشبه بالبَلَكّ الأسود وصعد نقيب التشكيليين السقالة ليلقى نظرة للتأكد مما رأينا من تشويه وسنعمل على إبلاغ المسؤولين لوقف هذه الأعمال التى ستمتد للعديد من التماثيل بكل الميادين). هذه الملاحظة وردت من فنانين تشكيليين وأعضاء نقابة الفنون التشكيلية المتخصصة.
فى حين كان رد الإدارة (إن طريقة الصيانة التى تم بها تنظيف تماثيل أسود قصر النيل صحيحة، وتمت تحت إشراف المجلس الأعلى للآثار/ نظفنا وغسلنا أسود قصر النيل ووضعنا عازلا سيأخذ شكله الطبيعى، وذلك تم بشكل مدروس علميًا/ لم يتم استخدام أو استعمال ورنيش أو أى مواد ملونة أو ملمعة، على الإطلاق، قد تؤدى إلى تغيير لونها كما انتشرت مزاعم من البعض/ وأكدت أن أعمال تنظيف هذه التماثيل اقتصرت فقط على إزالة الأتربة والاتساخات الملتصقة وغازات التلوث الجوى فقط، بالإضافة إلى وضع طبقة عزل شفافة لحماية التماثيل من العوامل الجوية من أشعة الشمس والأتربة والهواء ومياه الأمطار، ولم يتم إطلاقاً استعمال ورنيش أو أى مواد ملونة أو ملمعة أدت إلى تغير لونها كما أُشيع!)!
من المظهر اللامع الأسود القارع للعيون تحت الشمس، فالغالب أن يكون الطلاء المستخدم هو نوع من اللاكيه الأسود أو طلاء أكريليكى، وكلاهما عادة يترك سطحًا لامعًا ومتماسكًا. فنيا فاستخدام اللاكيه يعطى لمعانًا قويًا مقارنة بالشمع الطبيعى أو الطلاءات المخصصة للبرونز! كما أن الطبقة السميكة الظاهرة على التماثيل عادةً عند استخدام اللاكيه، تظهرها مغطاة بطبقة سميكة ذات لون موحد، طمست تفاصيل الوجه وشعر اللبدة وملامح الهيبة، فى حين أن البرونز الطبيعى يُظهر تفاوتًا طبيعيًا فى اللون مبرزا تفاصيل العمل ومعانيه! بخلاف أن اللاكيه لا يسمح للمعدن بالتنفس وقد يحبس الرطوبة أسفله، بما يؤدى لتآكل البرونز بمرور الوقت، فضلا عن كونه غير مرن ويتشقق مع الزمن، مما يضر بالمظهر التاريخى للتمثال ويجعله عرضة للتلف! فالبرونز القديم عادة يكون لونه بنيّا داكنًا مائلًا للأخضر بسبب تكوّن طبقة الباتينا، وليس أسود! هذا اللون هو جزء من تاريخه ويُفضل دائما الحفاظ عليه دون تغييره. الموضوع غير خاضع للاجتهاد أو التجريب لأنه موثق عالميا فى الخامات والإجراءات المعتمدة لمؤسسات التراث والمتاحف الدولية كالمجلس الدولى للآثار والمواقع (ICOMOS) والمعهد الأمريكى لحفظ الأعمال التاريخية والفنية (AIC)!
وعلى سبيل الحسم التقنى والفنى، فهناك مواد كيميائية معتمدة للتعامل مع أعمال البرونز، مثل: كربونات الأمونيوم المخففة (Ammonium Carbonate Solution)، الإيثانول أو الأيزوبروبانول المخفف لتنظيف التماثيل المعرضة للأوساخ الناتجة عن التلوث المرورى أو الزيوت، كما يُعتبر شمع “ميكروكريستالين” معيارًا دوليًا لحماية التماثيل البرونزية، لتوفيره طبقة عازلة تحمى البرونز من العوامل البيئية كالرطوبة والملوثات ويضيف لمعانًا خفيفًا جدًا وشفافًا، يساعد على إظهار اللون الطبيعى للبرونز وتفاصيل العمل بدون إخفاء طبقة الباتينا التاريخية – هذا الشمع لا يُحول لون البرونز إلى الأسود، بل يضيف طبقة حماية شفافة تسمح للمعدن بالتنفس وتحميه من العوامل الجوية.
أما الأدوات المستخدمة فحتما لا تكون (رولة نقاشة)! فتنظيف البرونز يتم بالفرش الناعمة، قطع قماش ناعمة خالية من الوبر أو المايكروفايبر، والتلميع اليدوى باستخدام القماش بحذر لتوزيع الشمع وضمان التغطية الكاملة للمعدن، مع تجنب أى أدوات تلميع قوية أو خشنة! وبالتالى يظهر أن الإدارة اكتفت بتعبير (نظفنا وغسلنا أسود قصر النيل ووضعنا عازلا سيأخذ شكله الطبيعى، وذلك تم بشكل مدروس علميًا، ولم يتم إطلاقاً استعمال ورنيش أو أى مواد ملونة أو ملمعة أدت إلى تغير لونها كما أُشيع).
قد تكون التوجيهات العليا من الإدارة فنية ومدروسة، ولكنها عندما وصلت إلى مخالب الأسود، تلقفها نقاش عترة أبدع فيها برولّته ولاكيهه ولا مانع من “صنفرة المزرجن”! المشكلة أن الملاحظة والنقد صدرا عن متخصصين شاهدوا وعاينوا ماديا الأداة واللون والأثر! ومع ذلك فالتوكيد المخالف النافى للواقعة، يجعلنا نضيف لمزرعة النعام واقعة جديدة فى ملف إدارة الرأى الآخر وتعاملنا مع التاريخ المصري! لتقف واقعة الأسود مع أخواتها فى هدم المقابر والشواهد الأثرية، وإزالة الأشجار القديمة، وحدائق الحيوان، وأنطونيادس، والخالدين بالإسكندرية، العمارات التاريخية، وغيرها! زحف مقدس من زملاء النقاش العترة وسيد أفندى ومدام عفاف بالدور الرابع، لتجريف حاضرنا وتاريخنا ببطء وتمكن وإصرار! ليقبع الجميع تحت مقولة أرسطو “إلا أخطائهم يرونها لا تستحق النقاش”! كم من أسود بك يا مصر تُلطخ بالأسود، ليقود اقتناعنا أخيرا بـ(الأسود يليق بنا)!
- محامى وكاتب مصرى
[email protected]