توقعت وحدة الاستخبارات الاقتصادية التابعة لمجلة إيكونوميست «EIU»، أن يقفز معدل التضخم على مستوى العالم إلى %6 هذا العام ليصعد إلى أعلى مستوى منذ أكثر من 11 عاما نتيجة تداعيات الحرب الروسية مع جارتها أوكرانيا بعد أن ارتفع فعلا إلى %5 خلال العام الماضى.
ورجح خبراء الوحدة فى تقريرها الصادر هذا الأسبوع، هبوط نمو الاقتصاد فى أوروبا إلى ما يقرب من %2 خلال العام الجارى، بسبب الحرب الروسية فى أوكرانيا، مقارنة مع %3.9 فى توقعاتها التى نشرتها خلال العام الماضى .
وأشاروا إلى أنه من المتوقع أن يتراجع نمو الاقتصاد العالمى بأكثر من %0.5 خلال العام الحالى، لينخفض إلى أقل من %3.4، بالمقارنة مع ما يزيد على %3.9 فى توقعاتهم السابقة فى العام الثانى من وباء كورونا.
وأرجع التقرير تلك التوقعات إلى الحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى استمرار تفشى العدوى من وباء فيروس كورونا المستمر فى جميع الدول، لدرجة أنه أصاب ما يقرب من 460 مليون حالة وتسبب فى وفاة ما يزيد على 6 ملايين ضحية.
ويرى المحللون فى تقرير وحدة EIU الذى يغطى النظرة المستقبلية السياسية والاقتصادية فى حوالى 200 دولة، أن النزاع العنيف بين روسيا وأوكرانيا سيؤثر سلبا على الاقتصاد العالمى من خلال 3 زوايا رئيسية: العقوبات المالية، وأسعار السلع الخام والغذائية، وتعطل سلسلة الإمدادات الناجمة عن تجميد العديد من الرحلات الجوية وتوقف حركة التجارة البحرية والبرية.
تجميد %50 من احتياطى “موسكو”
وأدت العقوبات الأمريكية والأوروبية على موسكو إلى عدم قدرة البنك المركزى الروسى CBR على استخدام حوالى %50 من احتياطيه الأجنبى البالغ 643 مليار دولار، من خلال منع تحويل الأصول المملوكة بالدولار واليورو إلى روبلات، وكذلك منع الحكومة الروسية من استخدام الأصول فى صندوق الثروات السيادية الطارئة أو فى صندوق الثروة الوطنية.
وأصدر الرئيس الأمريكى جو بايدن، ورؤساء الدول فى الاتحاد الأوروبى ومجموعة السبع الكبار، عقوبات هائلة ضد روسيا، بهدف تقليص قدرتها على استخدام الدولار واليورو والجنيه الاسترلينى والين، وتجميد %80 من أصول البنوك الروسية الكبرى، ومنع أكبر 10 مؤسسات مالية فى روسيا من التعامل فى الأسواق المالية العالمية بمنعها من استخدام نظام “سويفت” الذى تشرف عليه جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك، وهى مؤسسة مستقلة مقرها بلجيكا، وتعمل كنظام مراسلة داخلى بين أكثر من 11000 بنك ومؤسسة مالية فى أكثر من 200 دولة.
ولما كانت روسيا تهيمن على أكثر من %25 من صادرات الغاز الطبيعى على مستوى العالم، و%18 من سوق الفحم، و%14 من البلاتين، و%11 من صادرات النفط الخام، فإن الصراع العسكرى سيؤدى إلى تعطل إمدادات هذه السلع الأولية إلى أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط، مما سيضر بقطاعات الإنشاءات والبتروكيماويات والنقل والمواصلات، وسيؤدى أيضا إلى تراجع معدلات النمو على مستوى الاقتصاد.
ارتفاع البترول %10
وتشير تقديرات من صندوق النقد والبنك الدوليين إلى أن أسعار النفط ستظل ترتفع بنسبة %10 لعدة أعوام قادمة، بعد أن قفزت الآن، مما يؤدى إلى انخفاض معدلات النمو فى الاقتصادات النامية المستوردة للأسبوع الماضى إلى 139 دولارا للبرميل لتسجل أعلى مستوى منذ ما قبل الأزمة المالية العالمية فى 2008 كما أنها زادت بأكثر من %100 خلال الأشهر الستة الماضية.
وإذا استمر هذا الاتجاه الصاعد فى أسعار البترول فسيؤدى إلى انخفاض معدل النمو بمقدار نقطة مئوية كاملة فى اقتصادات مستوردة للنفط مثل الصين وإندونيسيا وجنوب أفريقيا وتركيا، بينما كان من المتوقع قبل هذه الحرب أن يبلغ معدل النمو فى جنوب أفريقيا نحو %2 سنويا فى 2022 و2023، وفى تركيا 2 إلى %3، وفى الصين وإندونيسيا %5 خلال نفس الفترة.
تصدير %75 من القمح
وتعتمد بعض الاقتصادات النامية بشكل كبير على روسيا وأوكرانيا فى الحصول على احتياجاتها من المواد الغذائية، لأنهما توردان أكثر من %75 من القمح الذى تستورده بضعة اقتصادات فى أوروبا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط وأفريقيا، وقد تتضرر هذه الاقتصادات ويحدث ارتفاع حاد فى أسعار الأغذية الرئيسية عند توقف تصدير أو نقل الحبوب والبذور من روسيا وأوكرانيا إليها.
ونجم عن غزو أوكرانيا أيضا تقلبات شديدة فى الأسواق المالية، ودفع إلى موجة واسعة من عمليات البيع للأسهم والسندات فى الأسواق العالمية الرئيسية، وهذا يعنى عزوف المستثمرين عن المخاطر وابتعاد رؤوس الأموال عن الاقتصادات النامية مما يؤدى إلى انخفاض قيمة العملات، وتراجع أسعار الأسهم، وازدياد علاوات المخاطر فى أسواق السندات لتتزايد الضغوط على عشرات من الاقتصادات النامية التى ترتفع فيها مستويات الدين وتجد صعوبة فى تمديد آجال الديون.
التضخم فى أعلى مستوى منذ 10 سنوات
ومن المتوقع أن تتفاقم الضغوط المالية أكثر وأكثر نتيجة استجابة البنوك المركزية لارتفاع معدلات التضخم بعد أن قفزت فى الكثير من الاقتصادات النامية لأعلى مستوى لها منذ أكثر من 10 أعوام، وقد تؤدى قفزة أخرى بسبب استمرار ارتفاع أسعار منتجات الطاقة إلى دوامة تضخمية على المدى الطويل، مما يجعل البنوك المركزية تتجه إلى تشديد السياسة النقدية بوتيرة أسرع من توقعات المحللين.
وقد تؤدى التطورات السريعة للحرب فى أوكرانيا وعواقبها الإنسانية مع هروب أكثر من مليونى أوكرانى إلى تداعيات اقتصادية خطيرة على بلدان أوروبا، كما أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا معرضة أيضا لمخاطر على اقتصاداتها لأن بعض بلدان المنطقة تمثل شركاء تجاريين لأوكرانيا وروسيا، وسيكون لهذه الأزمة العسكرية تبعات سلبية على مستويات الأمن الغذائى، لتزيد من مخاطر جائحة كورونا التى ما زالت تجمد سلاسل الإمدادات العالمية.
حرب مدمرة
ورغم أن هناك محللين يرون أنه لا يمكن أن يكون هناك رابح من حرب مدمرة كالحرب فى أوكرانيا إلا أن آخرين يؤكدون أن البلدان المصدرة للبترول والغاز الطبيعى مثل قطر والسعودية والكويت وليبيا والجزائر ستشهد تحسناً فى أرصدة المالية العامة وميزان المدفوعات الخارجية وتعزيز معدلات النمو وزيادة واضحة فى الطلب من أوروبا بعد أن أعلنت سلطات الاتحاد الأوروبى عن اهتمامها بتنويع مصادر إمداداتها من منتجات الطاقة بسبب توقف الغز الروسى نتيجة العقوبات.
وسيؤثر النزاع الروسى فى أوكرانيا إلى أزمة غذائية فى عدة اقتصادات فى منطقة الشرق الأوسط، لاسيما فى لبنان وسوريا وتونس واليمن، التى تعتمد أساسا على أوكرانيا وروسيا فى الحصول على وارداتها الغذائية، وخصوصا القمح والحبوب والبذور الزيتية وهذا يعنى قفزة هائلة فى أسعار الأغذية، وارتفاع كبير فى تكاليف الإنتاج المحلية فى قطاع الزراعة.
سوريا تستورد %66 من غذائها
وتستورد سوريا مثلا حوالى %66 من احتياجاتها من المواد الغذائية والنفط، ويأتى معظم وارداتها من القمح من روسيا، أما لبنان فيستورد من أوكرانيا وروسيا أكثر من %90 من احتياجاته من الحبوب، واحتياطاته من الحبوب لا تكفى إلا لمدة شهر تقريبا، بينما يستورد اليمن نحو %40 من احتياجاته من القمح من هذين البلدين المتحاربين، وقفز عدد من يعانون من الأزمة أو -الأسوأ- من نقص حاد فى الأمن الغذائى فى اليمن من 15 مليوناً إلى أكثر من 16 مليوناً فى ثلاثة أشهر فقط فى أواخر عام 2021، وستؤدى الحرب فى أوكرانيا حتماً إلى تفاقم هذه الأزمة الغذائية الطاحنة.
وأكد التقرير أن الحرب فى أوكرانيا تأتى فى أسوأ وقت بالنسبة للاقتصاد العالمى، الذى يبدو أنه بدأ يتعافى من الانكماش الناجم عن جائحة كورونا، والتضخم أخذ يزداد، والبنوك المركزية فى أكبر اقتصادات العالم تستعد لرفع أسعار الفائدة، وأسواق المال تضطرب بشدة وسط حالة من الشكوك فى نمو الاقتصاد العالمى وتفاقم التضخم.
المعاناة الاقتصادية مستمرة
وقد تستمر المعاناة الاقتصادية ويتسع نطاقها خارج شرق أوروبا إلى بلدان تعتمد على تحويلات المغتربين فى البلدان المتضررة من الأزمة، ومنها عدة بلدان فى آسيا الوسطى تعتمد على تحويلات مغتربيها فى روسيا، وتمثل هذه التحويلات فى بعض الحالات ما يصل إلى %10 من إجمالى الناتج المحلى للبلد، ومن المحتمل أن يشهد الكثير من بلدان آسيا الوسطى هبوط تحويلات المغتربين بسبب الصراع، والذى فر بسببه أكثر من مليونى شخص من أوكرانيا إلى بلدان مجاورة، فى أكبر موجة نزوح فى أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
الحرب تطرد 4 ملايين لاجئ
وتتوقع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أنه لن يمضى وقت طويل قبل أن تقفز أعداد اللاجئين إلى 4 ملايين أوكرانى، مما يشكل ضغطا على المالية العامة وعلى تقديم الخدمات فى دول أوروبا، التى مازالت تعانى من نقص الرعاية الصحية مع دخول وباء فيروس كورونا العام الثالث.
ويتوقع خبراء الأسواق المالية ارتفاع أسعار الغاز الطبيعة بنسبة %50 على الأقل هذا العام بعد أن قفز بحوالى %500 خلال العام الماضى، وهناك مخاوف من انخفاض توريد الغاز إلى نصف الكرة الشمالى خلال موسم الشتاء القادم إذا استمرت الحرب فى أوكرانيا وتوقفت الإمدادات الروسية، لاسيما أن أوروبا لديها مخزون محدود من الغاز الطبيعى.
وتهيمن روسيا على معظم المعادن النادرة والثمينة المستخدمة فى إنتاج السيارات والأجهزة الإلكترونية، ومنها الألومنيوم والبالاديوم والتايتانيوم والليثيوم والبلاتين والنيكل وسيؤدى توقف تصديرها إلى هبوط إنتاج العديد من المنتجات ومنها المحولات الحفازة الإلكترونية فى السيارات المتطورة والبطاريات الكهربائية والموبايلات السمارت وذلك بسبب الغزو الروسى لأوكرانيا الذى منذ 24 فبراير الماضى وحتى الآن ولا يعلم أحد متى ينتهى.
وساعد اندلاع الحرب الروسية على صعود أسعار البالاديوم إلى أعلى مستوى على الإطلاق بزيادة نسبتها %77 من 1940 دولارا للأوقية فى ديسمبر الماضى إلى 3440 دولارا حاليا، حيث تهيمن روسيا على %40 من إنتاجه، والنيكل زاد إلى أعلى مستوى منذ 14 عاما مع سيطرة روسيا على %7 من الإنتاج العالمى، وارتفاعه بحوالى %250 أمس الأول فقط، حيث يستخدم فى صناعة سبيكة الاستنلستيل، ليبلغ 100 ألف دولار للطن، إضافةً إلى زيادة الألومنيوم إلى أعلى مستوى فى تاريخه .
ارتفاع غير مسبوق للمعادن
وشهدت أسعار المعادن النادرة والنفيسة والصناعية مكاسب قياسية حول العالم فى اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية مع ارتفاع الذهب إلى أعلى مستوى منذ 19 شهرا ليتجاوز 2000 دولار للأوقية، وقفز النحاس إلى أعلى مستوى فى تاريخه ليتجاوز 5 آلاف دولار للطن، والفضة لأعلى مستوياتها منذ 8 شهور لتصل إلى 29 دولارا للأوقية.
ورغم أن المعادن ليست مستهدفة فى العقوبات الأمريكية الأوروبية حتى الآن، لكن بعض شركات الشحن وموردى مكونات صناعة السيارات توقفوا عن التعامل مع الشركات الروسية، مما سبب المزيد من الضغوط على شركات السيارات العالمية، التى تعانى أصلا منذ حوالى عامين من أزمة نقص رقائق أشباه الموصلات المعادن النادرة مثل الليثيوم اللازمة لتصنيع البطاريات الكهربائية والمركبات ذاتية القيادة.
موجة تضخمية
وأدت الحرب الروسية إلى ظهور موجة تضخمية غير مسبوقة عصفت بأسعار كل المنتجات من الغذاء والطاقة والمعادن وحتى الذهب وقفزت الأسعار وتكاليف المعيشة بصورة حادة فى وقت لم يكد الاقتصاد العالمى ينجو من أزمة كورونا التى مر عليها أكثر من عامين ليصطدم من جديد بأزمات عدة منها ارتفاع أسعار الطاقة بسبب زيادات الطلب ونقص السلع وارتفاع تكاليف الشحن لتصل معدلات التضخم العالمى إلى مستويات قياسية بلغت أعلى من %5 لأكثر من 12 شهرا طوال العام الماضى.
ومن ناحية أخرى، قالت كريستالينا جورجيفا، المديرة العامة لصندوق النقد الدولى، إن روسيا ربما تتخلف عن سداد ديونها بعد فرض عقوبات لم يسبق لها مثيل عليها بسبب غزوها لأوكرانيا، لكن ذلك لن يؤدى إلى أزمة مالية عالمية، غير أن العقوبات التى فرضتها الولايات المتحدة ودول أوروبية أثرت بشدة على الاقتصاد الروسى وستؤدى إلى ركود عميق هناك هذا العام .
وسيكون لهذه الحرب أيضا آثار غير مباشرة هائلة على الدول المجاورة التى تعتمد على إمدادات الطاقة الروسية مما سؤدى إلى انكماش التجارة العالمية وستجبر الصندوق على خفض توقعاته للنمو العالمى التى ستصدر أبريل المقبل، لاسيما فى بعض بلدان أفريقيا التى سيكون التأثير الناجم عن الحرب أشد فيها من حيث رفع أسعار السلع الأساسية والتضخم، مما قد يؤدى إلى أزمة غذائية وربما مجاعة وانعدام الأمن الغذائى فيها.