ترددت مع أصداء قرعات طبول التاريخ المصاحبة لموكب مومياوات الملوك المهيب، المناقشات المتصلة بإحياء الهويات المصرية، من عصر الفراعنة القدماء.. قبل أن يدهمه المحتلون منذ القرن الخامس قبل الميلاد (الفرس -الإغريق- الرومان البيزنطيون)، وصولًا إلى العهد العربى 641 ميلادية، ولأربعة عشر قرنًا تالية، تزامنت مع تقدم المسلمين الأوائل عبر الصحراء الجافة لجزيرة العرب.. لصناعة واحدة من الإمبراطوريات الكبرى فى التاريخ الإنسانى، إذ كان صعودها- فى موقعها- ضرورة سياسية مجتمعية بقدر كونها دينية أخلاقية، إضافة لمبرراتها الحضارية للإفلات بجزيرة العرب من الحصار المضروب حولها من ممالك فارسية زرادشتية، ومسيحية بيزنطية، ناهيك عن اليهودية العنصرية، ومن دون استثناء شيوع الوثنية الإلحادية ومشتقاتها، بحيث لم يكن لهذه الدعوة التحررية الإسلامية أن تنعقد ثمارها الإيجابية فى جزيرة العرب.. إن لم يمتد نفوذها للأفق الجيوسياسى الأوسع.. بغية تحرير بلدان المنطقة المحيطة بمجالها الحيوى المنظور من سطوة الآتين لاحتلالها، سواء من أطراف المنطقة (الفرس)، أو من وراء البحر (شعوب البحر المتوسط)، ولتصبح مصر من ثم أحد أهم الأهداف العربية- الإسلامية؛ ليس فقط لرغبة وجودية جيوسياسية، لتبادل الظهور بمرأى العين المجردة، أو لتحريرها فحسب من نير الأجنبى، بمساعدة من أقباط مصر، لولا عمليات سلب ونهب من أعراب غير نظاميين، بل وأيضًا لأجل ترسيخ حداثة الدعوة الإسلامية البازغة- عبر خصوصية مصر- التى صدّرت اللاهوت الدينى للبشرية جمعاء منذ فجر التاريخ، بإقناع الفكر دون قهر، وإلى أن انتشرت بالتدريج اللغة العربية بين المصريين الذين سبق لأقباطهم هجرة اللغة الهيروغليفية واستبدالها بأحرف يونانية، فيما تداولت اللغة العربية مفرداتها وتكويناتها النفيسة، حتى صارت فيما بعد إحدى ست لغات معتمَدة فى المنظمة العالمية للأمم المتحدة، ولتمضى القرون بمصر من عصر «الفراعنة» إلى عهد «عمرو».. إلى سقوط «الدولة العباسية»، لصالح «السلطنة العثمانية» فى القرن 16 إلى أن تفككت مطلع القرن العشرين، إلا أن مصر بقيت طوال هذه الحقبة- رغم توالى المِحن- بمثابة «عامود الخيمة» للمنطقة العربية، تزدهر بازدهارها، والعكس صحيح، إذ تكتسب قيمتها الإقليمية، ومن ثم الدولية، بقدر فاعلية دورها فى مركز الدائرة من المنطقة المحيطة بها، بحيث تصبح النداءات بتخلى مصر عن عروبتها مجرد ترّهات غير سياسية، ولا علمية، لا يقلل من أهمية دورها ما تمر به المنظومة العربية من أزمات يراد بها ضمنًا السطو/ ومحاصرة دور مصر المحورى على الصعيد الإقليمى، ما يُبطل دعوات التخلى العربى من جانب غير المسلمين أو المتمسحين بحضارة مندثرة إلا من أطلال آثارها التليدة، أو من اللاعروبيين بلا طرح هوية بديلة إلا فيما يطرح على الساحة الإقليمية والدولية من دور «التابع الذليل» لما يسمى «روابط الجوار» التى سبق أن خلّص الإسلام مصر من سطوتها قبل أربعة عشر قرنًا، أو لحساب مشروعات غربية تفتيتية fragmentation من جانب خصوم مصر التاريخيين، إذ إن لمصر هوية واحدة عربية بحكم التاريخ والجغرافيا واللغة والدين.. إلخ، كدولة أمة.. ولشعب واحد، حيث وُلدت أفريقية، وهى بحكم مشاطأتها لمئات الأميال من شرق ليبيا إلى الغرب الآسيوى فى شمال شرق سيناء “دولة متوسطية”، ناهيك عن تحكمها- ودول عربية- فى المدخلين الشمالى والجنوبى للبحر الأحمر، شريان التجارة العالمية، كما أنها «إسلامية»؛ لكون أغلبيتها الثقافية الدينية، فيما يتعايش نسيجها الإسلامى فى وئام منقطع النظير مع أقلية مليونية أرثوذكسية، وليس آخرًا.. فإن الإيمان بأكثر من ديانة أو مذهب لا ينفيان عنها قوميتها المصرية- العربية، كضرورة حتمية، من واقع تمركزها الجيوسياسى، ما لم يغيره تعاقب الزمن ولا تغير التاريخ، فى قلب الدائرة العربية، يواجهان معًا- وعلى القارب نفسه- تلك العواصف والمشاكل، إما أن يطفو بهم إلى برّ الأمان، أو أن تطيح الأمواج العاتية بنزعات ليست غير متضاربة تستنكر بعضها عن خفة سياسية متناهية هويات مصر المتآلفة بلا نظير عبر التاريخ.
شريف عطية
8:00 ص, الخميس, 22 أبريل 21
End of current post