هل يعتبر العالم الفرنسي شامبليون عنصريا، بوضعه لحذائه على رأس ملك مصري، منذ 1875 بساحة الكوليدج دي فرانس بباريس، باعتبار تمثاله جزءا لا يُزاح من التاريخ الفرنسي كما صرح الرئيس ماكرون؟
قبل إنصاف مُستكمل اكتشاف الهيروغليفية، ما هي العنصرية؟ هي الأفكار والقناعات والتَّصرفات الرافعة لقيمة فئة معينة على حساب الفئات الأخرى، تأصيلا لأمور مورّثة مرتبطة بقدرات الناس، وتعتمد أحيانا على لون البشرة، الثقافة، أو العادات، اللغة، لدرجة التمييز الشخصيّ الواقع بين الأفراد، بحمله لمواقف سلبيّة اتجاه عرق أو ثقافة. المراجعة المُنصفة لتاريخ وشخصية شامبليون تنفي عنه صفة العنصرية بهذا المعنى، أو زعمه التفوق على الحضارة المصرية القديمة بفك لغتها، لدرجة التعالي عليها ودعسها بحذائه!
محور سؤالي هو تمثاله – البريء منه – ونحته بعد وفاته، المثّال أوجست بارتولدي بهذه الصورة، مُترجم لأعمق معاني العنصرية العلمية والثقافية والفنية، تخليدا لقدراته وعلمه وثقافته المُستكملة لجهود سابقيه، كتمييز لشخصه فوق العلم المصري، وتوريث الفخر للثقافة الفرنسية! من أسف الانحياز الغامض لكثيرين لهذه العنصرية العلمية والثقافية الفاضحة! بدعوى اختلاف معنى الحذاء بالثقافة الفرنسية عن المصرية، وأن الرأس المدعوس ليست لملك أيًا كان، ولكنها رمز للآثار المصرية المكونة لحضارتها، فجاء التمثال توثيقا للإعجاب بدراساته لفهمه أعماق هذه الحضارة!
موضوعيا؛ فالتمثال تجسيد فج للعنصرية العلمية والثقافية، المنتهكة لمشاعر وكرامة وحضارة المصريين ومُحبيها كتراث إنساني عالمي، سواء بالوضعية الفوقية لقدم شامبليون فوق الرأس المصري (ولو كان حافيا أو لم يكن ملكا)، أو في رمز الحذاء بأي ثقافة عالمية خارج فرنسا، وعلى الأقل بمصر! هذا المقال أول مناقشة للعنصرية العلمية والثقافية، التي تفرد فيها بارتولدي بتمثاله العنصري. لا يوجد تخليد لتمييز علماء الصواريخ الألمان على الروس والأمريكان بهذه الصورة الموجعة! أو الإنجليزي سير تيم بيرنرز لي لاختراعه الإنترنت، أو الإيطالي أليساندرو فولتا 1745، أو أديسون أو تسلا وغيرهم، ولم تسع دولة لتخليد شخص أبنائها لاكتشافاتهم، بتجسيد تمييزهم وفوقيتهم على غيرهم، ومع ذلك مازال تمثال شامبليون تخليدا للعنصرية الثقافية والعلمية، لمجهود بحثي – لم ينفرد به – بل متمم لاكتشافات من سبقوه بقرون ومنهم 3 عرب!
شهد 25 مايو 2020 تغييرا عالميا للتصدي للعنصرية المباشرة، بموت الأمريكي الأسود “جورج فلويد” خنقا تحت حذاء شرطي أمريكي أبيض، لتنفجر موجة عالمية لمناهضة العنصرية وإبادة رموزها، وتثمر إزالة تمثال الرئيس الأمريكي “ثيودور روزفلت” أمام المتحف التاريخ الطبيعي بنيويورك معتليا حصانه، وعلى جانبيه أحد السكان الأمريكيين الأصليين، والآخر أفريقي! وفي غانا تمت إزالة تمثال “المهاتما غاندي” من جامعة أكرا لميوله العنصرية ضد الأفارقة، بل وتلطيخ تمثاله بالأبيض بساحة البرلمان بلندن! وإسقاط تمثال “كريستوفر كولومبوس” بحديقة بيرد بريتشموند فرجينيا! وفي بريستول البريطانية أُسقط تمثال “إدوارد كولستون” تاجر الرقيق! ثم قامت الحكومة الفنلندية بإزالة آخر تماثيل “لينين” بمركز مدينة كوتكا ونقله لمخزن متحف كيمنلاكسو! كذلك إزالة تمثال “توماس جيفرسون” بنيويورك أحد المؤسسين لأمريكا، لماضيه الاستعبادي! وأزالت بلجيكا تماثيل للملك السابق “ليوبولد الثاني”، صاحب الحقبة الاستعمارية الأكثر دموية! وأزالت جامعة كيب تاون تمثال “سيسل رودس” رئيس وزراء مستعمرة الكاب البريطانية بنهاية القرن 19! وقامت سلطات حيفا بإزالة تمثال المهرج رمز مطاعم “ماكدونالدز”، بشكل المسيح المصلوب بمتحف حيفا للفنون بمعرض “السلع المقدسة” للفنان الفنلندي يان لينونين، وتأسفت كاليش-روتيم عمدة حيفا لتسبب المعرض بتأجيج مشاعر الانزعاج لدى المسيحيين العرب! واختفى تمثال “فولتير” من قاعدته بباريس لاتهامه بالعنصرية وثرائه من تجارة الحقبة الكولينيالية الاستعمارية! وسببت النرويج وأمين عام حلف شمال الأطلسي اعتذارهما لتركيا، على خلفية حادثة اعتبرت مهينة بحق “أتاتورك واسم الرئيس أردوغان”، بعد جعل صورهما “لوحة أهداف” بالتدريبات العسكرية، بالتصريح أن الحادثة عمل فردي ولا تعكس آراء الحلف! ليتداركا غضبة تركيا وسحبها 40 جنديا من التدريبات!
فإذا كانت يقظة التجارب الدولية السابقة لاتصاف مميزين بالعنصرية، فما بالكم بتجسيد العنصرية ذاتها في تمثال بارتولدي لشامبليون يدعس رأس ملك مصري؟ العنصرية العلمية والثقافية لا تقل بحال عن عنصرية اللون والمصالح، وتبقى شاهدة على سلوك ممجوج تُنقى الإنسانية منه! خاصة إذا كان التجسيد للعنصرية مباشرا وعلنيا مهما اختلف حول تفسيره، ولو كان “تعبيرا عن الروابط الفرنسية المصرية أو دليلا على المناخ الثقافي”، كالقول الفج للسفير الفرنسي بالقاهرة ستيفان روماتييه 2019، بدار الأوبرا للإعلان عن العام الثقافي المصري الفرنسي!
فهل تكون كرامة المصريين أقل من غضب عائلة الشيخ عبد الحميد ابن باديس والجزائريين، الذين نجحوا بإزالة تمثاله بوسط مدينة قسنطينة، نظرا لتعرضه للإهانات بمدينته، والاستخفاف بأحد أكبر قادة النهضة ومؤسسي جمعية العلماء المسلمين؟ أم تحول تمثال شامبليون لرمز هيمنة أيدلوجية وعنصرية ثقافية وعلمية، من حق المصريين مناقشتها وتصحيحها بموضوعية، بعيدا عن الاستخفاف بعقولهم ومشاعرهم وكرامتهم، والزعم بأن التصدي له أصبح يثير السخرية بالأوساط الأكاديمية الفرنسية، لدفاع بعض المصريين عن كرامة الحضارة المصرية من ازدراء افتراضي ممن تسبب باكتشاف عظمتها؟
محاكمة بارتولدي على تجسيد عنصريته العلمية والثقافية لشامبليون ومن خلفه على مصر؛ لن تزيلها مقالات صحفية أو مكاتبات رسمية! لن يحركها فورة عاطفية أو تعاطف شعبي أو زمجرة كرامتية! لن يئدها تحفظات ومصالح وعنجهية كثيرين أو تنحرها السنين! لن تخشى سخرية الأوساط الأكاديمية الفرنسية، أو تضيع وسط غمام السلبية والضغوط والأزمات، واعتبار فرنسا لتاريخها على حساب قيم حضارة بأكملها! شامبليون ليس أكبر من غاندي، وكولومبوس، وجيفرسون، وروزفلت! وملوك مصر ليسوا أقل من جورج فلويد وأتاتورك وأردوغان! ولكنها الأيام الحُبالى التي لا تلد إلا كل عجيب!
* محامى وكاتب مصرى