فى الفيلم الأمريكى الشهير لأذكى غبى عالمى (مستر بيين) وهو يعمل حارسًا بالمتحف البريطانى لمن شاهد الفيلم مشهد موحٍ عند سؤاله من مدير المتحف الأمريكى الغشيم عن وظيفته وتخصصه الفني؟ فقال بابتسامته البلهاء العبقرية: أنا أجلس فى الركن وأراقب اللوحات.
اكتشفت مؤخرا أنى أقبع فى ركن الحياة واكتفى بمراقبة أحداثها فى صمت! أنظم شتات أحداثها وأرقب شواردها، وأنصت لإيقاعها. تبلورت هذه المراقبة بعد رحلتى الأخيرة لأمريكا الشهر الماضي، عندما استرعى انتباهى وجود أسعار مختلفة للفراخ المجمدة فى المحلات التجارية الكبرى؟ فهناك ما يعرف بالـHappy Chicken! ، وهى الفراخ التى يتم تربيتها بنظام Free Range أى تحيا فى مرعى مفتوح ومعها راعٍ يراقب عدم شرودها، وهذه أغلاها لارتفاع تكلفة تربيتها. فمن جهة، الطبيعة تجرى مجراها فيها من حرية سعى ومرعى فينعكس ذلك على جهازها العصبى ومرونة نسيجها، فيأتى لحمها طريا، سخيا، غير مفتول، ومن جهة أخرى يختص بها الأثرياء القادرون على دفع ثمن… حريتها وطيب طعمها!
وهناك درجة أخف وأرخص سعرا وهى Cadge Free ، وفيها يتم اختيار دجاج معين بكميات مناسبة ويتم تجميعهم فى مساحة مفتوحة محددة ومسورة تسمى بـ Fans وفيها يمارس الدجاج دورته الحياتية داخل سجن كبير مفتوح، مسموح فيه بقدر معلوم من حرية الحركة والرعي، وهذه لحومها أقل طراوة وأعصابها ألين، ويوجه إنتاجها إلى متوسطى الثراء.
ولكن نظرا لأن أمريكا قارة وسكانها بالملايين ومبدأ الربح هو محور الاقتصاد الأمريكي، فقد تفتق ذهن ملوك صناعة الدجاج المجمد على نظام الـ Mass Production ، وفيه يتم تجميع ألوف الدجاج فى صناديق خاصة Cadges أقرب للسجن، وتقضى الدجاجة دورة حياتها فى هذا السجن، وتخضع لمنهجية قاسية فى التغذية الموجهة، والتطعيمات الدورية بغرض التسمين التام، والهدف النهائى توفير أعداد رهيبة من الدجاج الموجه لسد حاجة المستهلكين بأسعار رخيصة. وفى هذا النظام السجين، لا يسمح للدجاجة بالحركة أو التريض أو السعي، بل وتعيش وسط فضلاتها حتى تعتادها، وتصبح جزءا من دورة حياتها! والنتيجة جهاز عصبى تالف، عضلات متشنجة، ونسيج لحمى مفتول وأكل فاقد المذاق والطعم…لتكون الحرية هى ثمن الربح!
استدعى هذا المشهد فكرة غريبة تولدت لديّ. أن أهل العالم الثالث يعيشون فى Cadges فكرية ودينية وتراثية وسياسية موجهة، هدفها توفير المادة الخام لأهل العالم الأول يعيشون عليه، ليربحوا من اشتراك هؤلاء معهم فى الحياة على الكرة الأرضية! التصنيف السياسى للعالم الثالث معروف، ومن أسفٍ أن العالم العربى يندرج تحته واقعيا وموضوعيا، ليبقى السؤال عن المحظوظين ليكونوا من الـ Cadge Free خارج منظومة الـ Mass Production ؟؟؟
المراقب الأمين الواعي، ينتبه أنه نجح (فعل ماضٍ مبنى للمجهول) أن يخلق سجونا ثقافية وفكرية ودينية ومذهبية وسياسية ممنهجة، سمحت لنا أن نستكين على مدار عهود للحياة الموجهة! والنتيجة أن أجهزتنا العصبية مشوشة، جيناتنا ملوثة، أفكارنا عطنة، خوفنا غالب، لحمنا مُر، إبداعنا مريض، إدارتنا فاسدة، وجميعا نساق للذبح فى مواعيدنا عند اكتمال الثمرة للقطف!
ذكاء صُناع الـ Mass Production فى احتراف التطوير والتغيير المستمر فى شكل ووظائف ومواصفات الـ Cadges لتستمر الصناعة فى ازدهار! سواء فى أساليب التطعيم أو أنواع الإضاءة (لخداع الدجاج بمواعيد الليل والنهار) ونوعية العلف.. إلخ. وهو ما لاحظته من ركنى المتواضع لمراقبة الأحداث! فمنظومة الـ Mass Production العربية تتطور بشكل رهيب الآن لدرجة تغيير أشكال الـ Cadges ذاتها دوريا، لنشترى ونقتنع فعلا أن هذه الـ Cadges هى الحياة الحقيقية! ويكون أقصى آمالنا الترقى للوصول لمرحلة الـ Cadge Free! المشكلة الحقيقية أن هناك أجيالا ولدت وعاشت وتصارع وستموت فى Cadges بدون أن تشعر بذلك!
وما الصراعات المذهبية والحروب الدينية والولاءات التراثية والصراعات الحدودية والهشاشة الفكرية والمحنة الثقافية، إلا دجاج مطور يتنفس يوميا فى الـ Cadges بمنتهى الإقتناع والولاء والانتماء!
وتطورت صناعة الـ Mass Production لترسم الدجاج حدودا جديدة للـ Cadges والتفنن فى تقديم المشورة لملوك الصناعة عن أفضل وسائل التهجين والتسمين، بل والذبح!
الأزمة الحقيقية أن هناك ديوكا استملحوا الصناعة، وطوروا أداءهم ليكونوا ممثلين لملوك الصناعة فى عالم الدجاج، مقابل نقلهم مؤقتا إلى Cadge Free أو تأجيل موسم الذبح أو الاحتفاظ بهم لتحسين النسل.
كثيرا ما أحلم بعالم عربى Free Range ، نرعى فيه بحرية ونبدع بأصالة وننتج بأصولية! عالم بلا Fans أو ملوك صناعة أو انتظار الذبح! عالم بلا Cadges فكرية أو تراثية أو تابوهات ثقافية! عالم بلا دجاج، بلا حياة لصالح آخرين، بلا تسمين فكرى وعقائدى موجه، بلا فضلات تسمى فنا أو أضواء تفقدنا الزمن!
عالم… نخلع فيه عنا وصف الدجاج ونكسر حلم الـ Cadge Free، ونبتكر صناعتنا الخاصة بنا، ونبيع فيه كل الـ Cadges عالم يسمح بحرية الوجود وحرية القرار وحرية الموت فى سلام!
الأزمة الحقيقية أننا نعشق الأكل، نتفنن فى الطهي، نبدع فى التسمين، نقدس الـ Cadges ونحميها بأرواحنا، لدرجة إدمان الصراع بيننا لحماية سوق الدجاج المجمد وتأمين ربح الملوك!
القرن الواحد والعشرين هو التطور الحديث لفنون الـ Cadges، وصناعة التسمين وتأمين مصادر غذاء الملوك ومصانع أسلحتهم وأدويتهم وأغذيتهم، الألفية الجديدة ستكون عالم الانتقاء والبقاء للأقوى فقط بأقسى صورة متصورة. عالم التقسيم والتقسيمات والتصفيات والدواجن المهجنة، عالم استحداث أطعمة جديدة مع الدجاج للوفاء بحق الأول فى الحياة وواجب الثالث فى الفداء!
ومن هنا يمكن فهم ما يجرى على الأرض.. من محاولات مستميتة لتغيير التاريخ والجغرافيا، مقابل صراع البقاء من حراس الـ Cadges المخلصين! ولكن طالما تشبعنا واستغرقنا التدجين فلا أمل فى التغيير… إلا بالوعى بأننا فعلا بشر ممسوخ بدجاج وأتى زمن الخلاص التدريجي.
للحرية ثمن، لهدم الـ Cadges ثمن، للتغيير ثمن، للحياة ثمن…. ولكن طالما نستكين للملوك، نؤمن بالقربان، نقدس الـ Cadges، فلا يجب أن نتوقع لنا يوما شراكة حقيقية على هذه الكرة!
ليبقى “مستر بيين” هو أذكى غبى فى العالم… يقبع فى الركن… ويراقب اللوحات تتغير، تباع، تُسرق…
ولكن دوما المتحف موجود. و…. بيتك… بيتك…. بيتك!!
* محامى وكاتب مصرى