نور وضياء فى صفحات الماضى (6)

رجائى عطية

12:16 م, الأربعاء, 3 سبتمبر 14

رجائى عطية

رجائى عطية

12:16 م, الأربعاء, 3 سبتمبر 14

رجائى عطية: 

واقع الحال أن الإطلال على عالم رفاعة الطهطاوى، معين لا ينصب. الفرد عنده ليس الرجل دون المرأة، فقد استرعى انتباهه فى باريس، الدور الكائن للمرأة فى المجتمع، والفروق الضخمة بين مكانها ودورها هناك، وبين وضعها فى الشرق. فسجل فى « تخليص الابريز » مجموعة من الحقائق والملاحظات حول المرأة الفرنسية، بينما تناول فى « المرشد الأمين » دور المرأة بصفة عامة، ثم واجبات المرأة الشرقية لتكون عضوًا عاملا فى المجتمع إلى جانب الرجل، فلم يحصرها فى الزوجة والأم وربة المنزل، بل ارتأى أنه يمكنها عند اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأشغال والأعمال ما يتعاطاه الرجال. وحين ننظر لما كان سائدًا فى زمن الطهطاوى، لا نأخذ عليه عبارة « عند اقتضاء الحال » فقد كان يوقظ عقولا طال سباتها، ويواجه عادات متجذرة مستحكمة، بل نعتبر دعوته لدور المرأة، دعوة جريئة بمقياس زمانها، لم يعرفها المجتع العربى أو الإسلامى من قبل، إذ كانت المرأة، وبرغم إنصاف القرآن والإسلام لها، حبيسة لمفاهيم متحجرة لا تنتمى حقيقة للدين، وإنما إلى سطوة الذكورة، وإلى تيبس التقاليد، حتى اعتبر بقاء المرأة فى الدار صونًا لعفتها وحفظًا لأخلاقها، بقالة إن خروجها للحياة يعرضها للمخاطر والمضايقات.

كان من جرأة الطهطاوى، وشجاعته فى التنوير، أن اعتبر «بطالة» المرأة «مذمة عظيمة». فالعمل يصونها ولا يعرضها، ويقربها من الفضيلة ولا يبعدها عنها، ويمكنها من أداء واجبها فى بناء المجتمع، بعد تزويدها الواجب بالتربية والتعليم. فهذا التعليم يحقق التجانس فى الزواج، وحسن تربية الأولاد، والإسهام فى العمل أسوة بالرجال، أما المرأة الجاهلة، والعاطلة، فتعيش عيشة الخمول «أسيرة مستعبدة استعبادًا معنويًّا»!

ومن قبل صياغة مبدأ المواطنة بقرابة قرنين من الزمان، تفطن إليه رفاعة الطهطاوى، ودعا إليه بمصطلحات عصره، فتبنى أن وضع أهل الذمة يقوم على مبدأين أساسيين:

الأول: حرية العقيدة، والثانى: ضرورة التعامل بين كل أبناء الوطن فى إطار المساواة وسيادة القانون. وأن كل نقض لأى من هذين المبدأين الأساسيين يشكل نقضًا لمسئولية الدولة الإسلامية والعهود التى عليها فى حماية أهل الذمة. وقد حاول الطهطاوى، وهو يحادث عصره وما ران عليه فى مصر، أن يجمع فى تناوله لهذه القضية بين الناحية الإسلامية رائيًا أنها تعززه من الناحية الشرعية، وبين الناحية الوطنية فنقل عن فقهاء المسلمين قولهم إن « أهل الذمة فى المعاملات كالمسلمين »، وأن ظلم الذمى محرم كظلم المسلم، هذا إلى أن اعتبارات الأخوة الوطنية تفرض ذلك، لأن أخوة الوطن لها حقوق. ثم تصدى لمفاهيم مغلوطة لدى البعض فى زمانه، فأجاز المخالطة وطيب العشرة بين المسلمين وأهل الكتاب، منبهًا إلى أن المحظور هو فقط الموالاة فى الدين، لافتًا إلى حل الزواج من الكتابية، وولاية العقد له من وليها، مما اعتبره الطهطاوى أصلاً من أصول التربية السليمة التى تهئ العقول لأفكار هى من صميم الإسلام وليست خروجًا عنه، ومن ثم دارت بحوث الطهطاوى حول أربعة موضوعات، تجسد عقلانيته، ومفاهيمه التقدمية، حتى فى المجال الدينى، وهى: ضرورة التربية، التعليم العام للبنين والبنات، أهمية التربية الدينية، أهمية التربية السياسية والتربية كانت عند الطهطاوى، ضرورة عامة للبشر، فقد وهبهم الله العقل للتعليم، ولاكتساب المهارات والخبرات، والتقلب على صعوبات الحياة، واستثمار الطبيعة، والاستفادة من الكائنات الأخرى لخدمتهم.

وتلعب اللغة دورًا مهما فى جانب العقل فى تكوين المجتمعات والحضارة، فهذه الحضارة هى حصاد التعامل بين الأفراد على نحو يؤدى إلى تطوير الأفكار وتناقلها، واكتساب الخبرات، وثراء المعارف. ومن ثم امتد حديث الطهطاوى من التربية إلى التعليم الذى اعتبره جزءًا من التربية، امتد للذكور وللإناث على حد سواء، وعلى ثلاث مراحل، الأولى أو الابتدائى، ثم الثانوى التجهيزى، ثم التعليم الكامل الانتهائى.

فَصَّلَ الطهطاوى هذه المراحل الثلاثة التى تشرف الدولة عليها، ومواد الدراسة فى كل منها، وشرط أن تعم المرحلة الأولى جميع أفراد الشعب فقيرهم وغنيهم، وتراعى الدولة فى المرحلة الثانوية التجهيزية تقسيم الطلاب إلى مجموعتين وفقًا لاستعداداتهم، إحداهما للتعليم الثانوى، والأخرى للتدريب المهنى، والمواد الواجب تدريسها فى كل منهما.

ونحن حين نطل على هذا المعين، نجد أنه منبع مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية التى تبناه أولاد وأحفاد الطهطاوى، والدعوة إلى تحرير المرأة التى نهض لها قاسم أمين (1863 1908م) فى كتابيه تحرير المرأة، والمرأة الجديدة، والدكتور طه حسين (1989 1973م) فى دعوته لمجانية التعليم، والأساس الذى استمد منه رجال التعليم أسس وبرامج التعليم، وترى كيف سبق هذا الشيخ المعمم عصره، ونهض برسالة تنويرية تنوعت معطياتها، فى شتى المجالات، والتى امتدت إلى ضرورة إصلاح الأزهر، والذى كان قبل عصور الانحطاط معقلا علميا من معاقل الحضارة الإسلامية، وكانت تدرس فيه علوم الطبيعة والطب والرياضة والهندسة والفلك، ومساحة الأشكال، وعلم المواليد والمعادن، ونبغ فيه مشايخ مشهود لهم كالشيخ أحمد الدمنهورى (1689 1767 م) الذى تولى مشيخة الأزهر وعرف بثقافته الواسعة، والشيخ عثمان الوردانى الفلكى (1768م) صاحب السلك القويم فى معرفة التقويم، والشيخ حسن العطار (1766ـ1852م) الذى تولى مشيخة الأزهر وكان صاحب فكر تنويرى لازال معدودًا حتى اليوم، إذ لم يكتف هؤلاء بعلوم اللغة والفقه، وتلخيص المتون أو شرحها، بل تجاوزوها إلى دراسة العلوم الرياضية والطبيعية كما كانت معروفة فى أيامهم، وهى موضوعات برع فيها العرب، وقدموا دراسات قيمة فى فروعها، الأمر الذى يجب فيما رأى الطهطاوى أن يمتد إليه إصلاح وتطوير الأزهر.

إن الحديث عن رفاعة الطهطاوى حديث عن دنيا بأسرها رعاها هذا الشيخ الذى سبق عصره، والحديث عنه لا ينفد معينه، وإنما أردت بهذه السطور أن أستدعى الحاضر، حاضر الحكم، وحاضر المتشحين بالإسلام، للإطلال على ما قدمه حاكم لمصر من قرنين من الزمان مع أنه لم يكن من أصل مصرى، وما اضطلع به شيخ معمم من شيوخ الإسلام، أتيح له أن يطلع على حضارة متقدمة فى عصره، فاغترف منها بفهم ووعى، وفتح نوافذ الحرية لمصر والمصريين، وقاد حركة تنويرية لا تزال موجاتها تترى، فتحت الآفاق، وكانت ولا تزال الحماية الحقيقية لمصر من الخفافيش وطيور الظلام.

(يتبع)

رجائى عطية

رجائى عطية

12:16 م, الأربعاء, 3 سبتمبر 14