نحن واليهود من سفر الخروج إلى العودة

11:41 ص, الأربعاء, 29 أغسطس 18

جريدة المال

المال - خاص

11:41 ص, الأربعاء, 29 أغسطس 18

ما قصة هؤلاء القوم من بنى إسرائيل.. ممن عبروا بين النهرين إلى مصر شرق البحر المتوسط قبل الميلاد، مجرد رعاة رُحل أو أرقاء وموالى، ليصنع بهم موسى «النبى»- من بعد- بالتوراة وما نهلوه من حضارة مصر وعلومها وفنونها وآدابها- تاريخاً وشعباً، فضلاً عما أسبغته من حمايتها عليهم زمناً طويلاً، سواء بتسيير جيوشها لمقاتلة الآشوريين المغيرين، أو بإيوائهم لديها هرباً من قهر الأسر والسبى البابلى أو ما إلى ذلك من قوى مغيرة ليست آخرها ترحيل اليهود إلى مصر فى أعقاب سقوط القدس على أيدى روما فى 70 ميلادية، لكن ما أن تشتد سواعدهم مرة تلو الأخرى إلا وكان الجحود هو الثمن المقابل لمصر وأهلها، سواء مما تتلوه تراتيل صلواتهم عن «سفر الخروج» الطافح بالدعوات ضد مصر والمصريين، أو أن تجدهم إلى جانب المحتل الأجنبى لمصر- الفرس مثالاً لا حصراً نحو 500 ق.م- ينطوون معهم فى منظمات شبه عسكرية لإخماد ثورات المصريين (بريستد).. إلخ، ذلك فى تناقض عن رد الصنيع لأهله، إذ طالما أفسحت لهم مصر فى الأمس البعيد- أسواق العمل والمال.. فإذ بهم يتحالفون ضدها فى الأمس القريب إلى جانب الاحتكارات الرأسمالية الاستعمارية، وحين حافظت مصر على معابدهم فى الأمس البعيد.. وقت أن كانوا يصلون- كأسرى- لأرباب بابل (خمس تدوينات للتوراة وقتئذ).. إذ بهم فى الأمس القريب يبيدون القرى (أبوزعبل- بحر البقر.. إلخ) ويحرقون المسجد الأقصى، ويهددون مقدساتنا، ولما كانت مصر هى المقام المفضل لهم والأكثر أماناً من ملاحقات الاضطهاد والمذابح أينما حلوا أو ارتحلوا فى الأمس البعيد.. إذ بهم بعد انعتاقهم من قهر الشتات.. يعودون إلى مصر فى الأمس القريب مدججين بالسلاح على ظهر مصفحات القوى الأكثر إمبريالية فى العالم، إلى آخر مثل تلك السلوكيات السيكوباتية العبرانية.. غير الخاضعة لأى تفكير منطقى.. سوى الشبق للمزيد من الثروة والقوة التى تقودهم أكثر من مرات عبر التاريخ إلى تجرع كئوس اللعنة، بحسب التحليل التروتسكى للحركة الصهيونية، الأمر الذى لو صح، لا يجب أن ينطبق مع مصر التى تجدها بمقارنة معاملة اليهود فى أوروبا.. خالية من العنف وعمليات الاضطهاد الدموية الموجودة فى غيرها من بلدان العالم غير الإسلامى، ومع حسن وفادة مصر لليهود تاريخياً، بخاصة فى العصر البطلمى وفى القرن 19 وحتى منتصف القرن العشرين، تجد أن لديهم شوقاً جارفاً لـ«ادخلوا مصر آمنين»- ربما وفقاً لما جاء بالقرآن- إذ تمثل مصر لليهود- إذا جاز التشبيه- أولى الأمم الحاضنة، حتى ولو ضمر ضرعها أو جف، فإنها تبقى لديهم بمثابة البداية.. للوصول إلى الهدف النهائى.. للسطو من خلال دورها ووضعيتها الحاكمة على مجمل المحيط المنظور لها فى منطقة الشرق الأوسط، ومن ثم فإن ضعف مصر- كما يبدو من وجهة نظرهم- قوة لهم، وسبيلهم إلى تحقيق الغايات العليا للمشروع الصهيونى الذى يسعون إليه عبر جولات متتابعة منذ القرن 19 مع القوى الكبرى من جانب وبين الاحتكارات الرأسمالية العالمية على الجانب الآخر، ووفقاً لصفقة القرن العشرين على حساب مصر والعالم العربى، ذلك منذ احتلال الإنجليز لمصر 1882.. حين دخل إليها العديد من الشركات اليهودية الأوروبية باستثمارات كبيرة، وبالتزامن مع حدوث هجرات لليهود الأوروبيين إليها، فى صورة أفراد هاربين من الاضطهاد فى بلادهم الأصلية، إضافة أيضاً إلى من شاركوا فى الحركة الصهيونية الوليدة، التى كان لتطورها كقوة فى المنطقة.. ما أدى إلى تغيير وضع اليهود فى مصر تغييراً تاماً، وإلى حدّ التقدم بخطة صهيونية حوالى 1804(زيارة تيودور هرتزل لمصر والباب العالى فى الأستانة).. لتأسيس دولة يهودية فى سيناء (شرق العريش تصلها مياه النيل عبر أنابيب تمر من تحت قناة السويس)، إلا أن السلطان عبدالحميد رفض الخطة الصهيونية، لأسبابه، فيما رأت بريطانيا أن الأولوية للخلاص من الدولة العثمانية قبل أن تصدر فى 1917 «وعد بلفور» لإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين، الأمر الذى قوبل بالعداء من معظم العرب، بمن فيهم المصريون، ولتتزايد حدة معارضتهم بقية النصف الأول من القرن العشرين، خاصة مع إعلان قيام إسرائيل عام 1948، والحروب التى تلتها، ما أوصل العداء للصهيونية إلى ذروته، على المستويين الرسمى والشعبى، ومع أن لدى عديد من اليهود فى مصر علاقات طويلة بالبلاد، إلا أن كثيرين منهم قرروا الهجرة فى ظل تحريض الصهاينة بالخارج، وليصبح حادث «لافون» 1954 بشأن تدمير عناصر يهودية منشآت أميركية ومصرية، أحد العوامل المؤثرة على موقف الطائفة المحلية اليهودية فى مصر، أما عن التدفق المفاجئ للهجرة اليهودية فقد كان فى أعقاب اشتراك إسرائيل مع فرنسا وبريطانيا فى حرب السويس 1956، ومع أن مصر وإسرائيل قد أبرمتا فى 1979 معاهدة سلام، إلا أن التطبيع الشعبى بينهما لم يتواز مع نصوص الاتفاقية، فضلاً عن أن الموقف العربى الذى تبلور فى مبادرة القمة العربية 2002، عن الانسحاب الإسرائيلى الكامل من الأراضى العربية المحتلة.. مقابل السلام الكامل، مازالت حبيسة الأدراج منذ ذلك التاريخ، بينما تواصل إسرائيل بناء أسوار عالية حول حدودها مع العرب، تحسبها طوق نجاة من عداء عربى- حقيقى أو مُتخيل- بينما قد تكون أنشوطة خنق لجيتو إسرائيلى جديد يضم هذه المرة الملايين من اليهود، وكأنها اللعنة التاريخية فى تمجيد الذات تأبى أن تفارقهم رغم تحذيرات «المثاليات اليهودية» من خطورة النتائج المترتبة على مثل هذه السياسات العنصرية.

إلى ذلك، ربما من غير الملائم وقضية الصراع العربى- الإسرائيلى محل جهود إقليمية ودولية لمحاولة تسويتها، استعادة ذلك السجال التاريخى بين مصر واليهود، طرفى الصراع الرئيسيين، حتى وكأن الأمر يبدو أقرب إلى نغمة نشاز، إلا أن تعثر جهود التسوية السلمية، وتبعاتها غير الإيجابية، تلزم الأطراف المعنية إلى التبصر بالجذور، لاستطلاع اتجاهات ما تتفرع عنها، ولأمكن عندئذ رؤية أن كلا طرفى الصراع «ضحية»..تستباح مقدراتهما من جانب القوى الكبرى التى من صالح هيمنتها.. استمرار تصارع الضحيتين، وإن بدا (على العكس) أن كليهما يسعى لحل مشاكله على حساب الآخر.. ولتصبح مصر وإسرائيل تحديداً من خلال هذا المنظور ليس إلا مجرد ورقتين من أوراق سياسة الاستقطاب العالمية، لم يكن ذلك مصيرهما لولا الصفقة بين القوة الأكثر إمبريالية.. مع الصهيونية الدولية، غير المعلوم إذا قيض لهما الانتهاء من السطو على كامل المنظومة العربية بما فيها مصر، أيهما سيكون الغالب وأيهما المغلوب، إلا أن التاريخ ينبئنا بما يحيق بالأهداف الصهيونية «اللا واقعية» فى نهاية الأمر.. من سوء العواقب، لا مفر للنجاة من تكرارها سوى بالتخلى الصهيونى عن استخدام اليهودية سياسياً، وفى التخلص من انسياق سياساتها عن اللعب مع الكبار، إذ دون ذلك البقاء كالدمى المرتبطة خيوطها سواء بالقوى الخارجية الإمبريالية أو من الإمبرياليات القديمة على أطراف الإقليم.

نعم، للالتحام السلمى، لولا أن «اشكيناز» اليهود الغربيين.. وهم بناة الدولة الإسرائيلية، الذى قيض لهم زرعها فى أرض فلسطين بفضل دعم الإمبريالية الغربية ومساندتها.. ولتصبح- أى إسرائيل- من داخل السياق الأوروبى وإليه، ومع ذلك.. فإن المشروع الصهيونى لم يكن ليتحقق لولا توظيف «الصهيونية الأوروبية» لجموع الفقراء من الطائفة اليهودية، ومن خلال استغلال أموال «سفرديم» اليهود الشرقيين على السواء.. لإحياء حلمهم.. بالعودة إلى «أرض الميعاد».

وإذا كانت المحن عبر أوقات الشتات.. قد وحدت بين اليهود، فإن النجاح يكاد يفرقهم، وليصبح العالم اليهودى أقل تماسكاً عما كان عليه من قبل، إذ بعد مرور أكثر من ستة عقود على إنشاء إسرائيل.. انتشرت فى الآونة الأخيرة دراسات تؤكد عمق التمييز العنصرى ضد اليهود الشرقيين فى ميادين الحياة المختلفة، مردة- بحسب نتائج مسوحات اجتماعية- إلى وجود مراكز قوة من اليهود الاشكيناز.. سواء فى المؤسسة العسكرية أو فى النظام السياسى، وهكذا.. فإن الصلات التى تربط اليهود ببعضهم.. آخذة فى التفكك، وإن مازالت تجمع بينهم ذكرى الاضطهاد.. والخوف من تجدده، وحقيقة أن إسرائيل هى الملجأ لهم فى أوقات الحاجة، الأمر الذى ينعكس بالسلب على عملية تسوية الصراع مع العرب، إذ إن المضى نحو السلام.. قد يعنى- على الأرجح- المخاطرة بتصعيد توترات وتفرقة طائفية.. كامنة تحت سطح الحياة الاجتماعية والتاريخية فى إسرائيل، خاصة إذا كانت الاتفاقات السلمية المأمولة.. لا تلبى مطالب وتوقعات «الاشكيناز» أو لأنها فى توقيت غير ملائم، كما أنها لو عقدت لاضطروا إلى مواجهة جبهة عريضة من اليهود الشرقيين.. إلى جانب العرب.. ممن يشاركون أولئك الداعين فى إسرائيل إلى «حل وسط إقليمى» بالنسبة للأراضى المحتلة (المدارة) بأكثر مما يشاركون أنصار إسرائيل العظمى.

إلى ذلك، ليس اليمين الصهيونى الذى له وحده.. المصلحة والرأى فى مستقبل إسرائيل، ولكن ملايين غيرهم من الإسرائيليين، ومن اليهود غير الإسرائيليين، تعنيهم إسرائيل.. ويظهرون تجاهها خليطاً متبايناً من المشاعر والعواطف.. تتصل بالنوعية الاجتماعية وبالثقافة، وهى الشرائح التى من المهم أن يتوجه إليها الخطاب العربى.. الذى يرى أن «الالتحام السلمى» هو القادر على تقليم أظافر عنصرية الصهيونية الغربية.

لقد كان العرب يفصلون حتى العشرينيات من القرن الماضى بين «اليهود الشرقيين» الذين كانوا يتبادلون معهم الاحترام، وبين «الصهاينة البلاشفة» الآتين إلى فلسطين من شرق أوروبا.. الذين سماهم كل من الجانبين العربى.. ويهود الشرق بـ«أولاد الموت»، الذى وصم بطابعه خطا موجهاً مستميتاً- لا يزال- على طول طريق الصراع بينهما، ولتعلو- من ثم- فلسفة كل من «جابوتنسكى»، «بن جوريون».. التى تؤمن فلسفتهما بأولوية أن تكون «أغلبية يهودية وطنية» هى التى تحدد طابع البلاد ولونها.. وأن حل المسألة الفلسطينية سيكون فى الدول العربية المجاورة.. إذ إن (الالتحام السلمي)- كما يعتقد «بن جوريون».. سوف يحول أرض إسرائيل إلى جيتو صغير محاط بالدول العربية.

جريدة المال

المال - خاص

11:41 ص, الأربعاء, 29 أغسطس 18