أثناء مرورنا بجسر روض الفرج المعلق، فاجأنى صديقى بسؤال:
ـ ماذا لو كما اهتممنا بكبارى الأرض، قررنا عمل جسور للعقل المصرى؟
ابتسمت وقلت: كعادتك أسئلتك مبتكرة، ولكنه قياس مع الفارق! ثوابت المكان غير متغيرات البشر! قد تتحكم بتغيرات المكان بالهدم والبناء وترويض الطبيعة، لتأتى الكبارى فتربط جزرا منعزلة بطبيعتها، فتتقارب مع استمرار الانعزال جغرافيا واجتماعيا. أما البشر فمختلفون تماما، فتنفيذ منهجية الكبارى وشق الطرق فى البشر، ستكون دامية فكريا ونفسيا واجتماعيا.
لم يستسلم وقال: ـ
طرق وكبارى مصر الحديثة ظاهرة عالمية، ليس فقط بتوقيت وزمن تنفيذها، ولكن كظاهرة فرضت وجودها بوقت حرج جدا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا! بخلاف مقاومة العديدين لبداياتها واعتبارها تشويها للزمن الجميل! تكلفة الشبكة 175 مليار جنيه لـ30 ألف كم، منها شبكة طرق المحافظات و600 كوبرى وشبكة مترو وأنفاق بـ407 مليار جنيه.
لا أعتقد أنها طفرة كانت نائمة بالأدراج واستيقظت فجأة، لمجرد حل مشاكل المرور! فملف (طريق مصر الجديد) خلفه رؤية واستراتيجية بانورامية، تُعدها لمشروع كبير للسنوات القادمة. وبالفعل بدأت ثمار الطريق تظهر تدريجيا ويتعود الناس استخدامها والاستفادة منها.
ولكنى قصدت بسؤالي، تحديث ووصل الوعى الجمعى للمصريين، المحتاج لحزمة طرق وكبارى تربط وتعبر بأمان بين التراث والمعاصرة والحديث/ الذوق والقيم والفكر والسلوك/ العادات والتقاليد والتجديد/ النص والتفسير والاجتهاد وحرية التفكير/ الضرائب والرسوم والكسب وتيسير العمل. واقعيا، الفجوات والجبال والعشوائيات النفسية والاجتماعية والسلوكية، تتفجر تدريجيا وتحتاج جسورا لربط وتصحيح وتدارك الفهم والمفاهيم.
عقبت فقلت: ـ
فهما لفكرتك، فرابط العقول الناجح حتى الآن، هو (الفيسبوك)!؟ فهو كرؤيتك المعبر اللحظى وليس اليومي، الناقل والمنتقل عليه ـ عالميا وليس فقط مصريا ـ مليارات الأفكار والعقائد والسموم والمشروعات وغيرها. وليس الحل بشراء مصر للفيسبوك أو أن تخترع بديله الاستراتيجى للعقول المصرية مثلا! أما كبارى العقل.. فأجدها فكرة شبه مستحيلة!
ابتسم صديقى معلقا: –
اقتربت لمعنى سؤالي، فعلا الفيسبوك أكبر مشروع لجسر فكرى ومعنوى بتاريخ البشر! خلفه رؤية واستراتيجية تطوير مستمرة وصّلته لسيطرته الحالية، ولكن عظمته تحويله الفضاء السيبرانى لوطن كونى لمستخدميه، فلا يشعرون بغربة أو اختلاف، فلكل مواطن فيسبوكى طرف كوبرى ثابت لديه، ومعبر حر تماما يرسيه أينما أراد كونيا.
استوعب الفيسبوك العقل والنفس البشرية، واستثمر غرائزها لحب الظهور والسيطرة، الجنس، التجمع، الاستطلاع، والعدوانية، فبنى جسوره العقلية لربط الوعى الجمعى العالمى على أرضيات الغرائز، لينجح فعلا بخلق قضية عالمية اسمها حرية التواصل والظهور الاجتماعي.
ما أحلم به، استكمال عمران (طريق مصر الجديد) برؤية واستراتيجية بانورامية حقيقية، لتأسيس شبكة طرق وكبارى تربط بين جزائر العقول والآراء المصرية، التى يسميها البعض تجديد الخطاب الديني، أو حتمية العلمانية أو حل مشكل الإخوان أو الأمن القومى أو تغليب الاقتصاد أو إنقاذ المُهمشين واستعادة الطبقة الوسطى المهروسة. ولكنها جزر منفصلة، أراضٍ وعرة، مستنقعات قديمة، وكل جسورها مصدرها أهلها وليس رؤية وطنية.
نجح طريق مصر الجديد، لمعرفتنا بإحداثيات الأرض والعوائق ومواطن الضعف والاختناق، أما جسور الناس فمرجعها رؤاهم وحصتهم من المصالح، وسؤالى هل لدينا إحداثيات للجزر المنعزلة للعقل المصري، لدرجة الربط بينها وتقريب مناطقها، أم الأفضل بقاؤها كما هى ولمصلحة من؟
عدت فسألته: ـ أفهم بذلك رؤيتك لآفات المجتمع المصري، سببها كل فريق بما لديه فرحون؟ مما جعلهم جزرا منفصلة متعثرة، تربطهم (مصرية) مكانهم. ولكنك تحتاج تجسيرهم ـ جعلهم جسورا ـ كـ(عقل مصري) بكبارى فكرية شبيهة بمنهج الفيسبوك؟
رد صديقى بسرعة: ـ بداية لست من أهل الرؤية! ولكنى أطرح فكرة أن من استطاع التعامل مع جسد مصر المتغضن بهذه السرعة والقدرة والكفاءة، جدير به الالتفات لتكامل الاستثمار فى عقلها، ليواكب تطورات المكان والأحداث، خصوصا مع أحداث عالمية ككورونا والانكماش الاقتصادى وانفجارات القيم والأخلاق والسلوك.
عقبت: ـ الأفكار المطلقة بذور تُروى بالتخطيط المُنفذ، وإجابة سؤالك تحتاج مشاريعا من أهل الحل والعقد.
ابتسم صديقى وقال:ـ لو طُرح طريق فكر مصر الجديد للاستفتاء، لانتهى القرن وهو يُناقش!
فكرتى تحتاج رؤية وقرارا جريئا بإنقاذ العقل المصرى لمصلحة المكان، وإلا عمّرت جنة لغير أهلها!
وكما وُجدت مخططات للطريق الجديد، فحتما يوجد للعقل الجديد. المشكلة الجزر المنعزلة بين الثقافة والاقتصاد والإعلام والتعليم والمؤسسة الدينية، رغم أن المصرى هو منتفعهم الوحيد. انتهت آخر قضية حقيقية للمصريين بجلاء الإنجليز! أما التنمية والاقتصاد والتعليم والدين، فمشاكل اصطُنعت قضيتها لإرباك العقل المصري. نحتاج مشروعا فكريا قوميا لإنعاش المصريين، وإنتاج كبارى عقلية لمواجهة سعار فكري، سلوكى يقضمنا يوميا.
عارضته قائلا: ـ لعلك لا تعلم أن لدينا زخما لمشاريع ثقافية، ريادة الأعمال، رقمنة المحتوى الثقافي، منح عالمية للأزهر، وغيرها.
ابتسم صديقى وقال: ـ هنا بيت القصيد، فإثمار جزيرة الثقافة لا يقابله إنارة جزيرة الإعلام! وضبابية جزيرة التعليم، لا يوازنها صراعات جزيرة الدين، ووجود بذور كفاءات لا يعوض اقتناص كورونا للقمم، وحلول الاقتصاد يلتهمها ثبات الدخل وتعويقه!
يلهث العقل المصرى ويتشتت بين جزره المنعزلة، لذلك فهو وقت بزوغ مشروع جسور العقل المصرى للوصول بأمان.
* محامى وكاتب مصرى