التطبيع مع من؟!
لم يكن من المقرر اندلاع الصراع العربى الإسرائيلى، ولا أن تشهد جولاته المتتالية منذ عشية القرن 19.. ذلك الاحتدام- سلما أو حربا- إلى اليوم، لولا الدور المحورى لقوى الغرب فى تصدير مشكلة.. «اليهودى التائه» إلى خارجها، من بعد أن أرّقتها، وربما لا تزال تؤرق العالم الأوروبى المسيحى إلى اليوم، أضف إلى ذلك التطورات الغربية الطموحة بالنسبة لمستقبل الاحتكارات الرأسمالية العالمية التى توازى صعود أهميتها مع الثورة الصناعية الكبرى نهاية القرن 18، كما إلى حرص قوى الغرب الإمبريالية، لأسبابها، من ناحية ثالثة، لئلا تقع منطقة الشرق الأدنى (الأوسط) فى أيدٍ غير صديقة، بحسب «بالمرستون» وزير الخارجية البريطانى فى العام 1832، ما أدى لإبرامها لما يجوز تعريفه بالصفقة المتبادلة بين المشروع الصهيونى الذى تحددت أهدافه صوب استيطان فلسطين وفق توصيات المؤتمر اليهودى فى «بازل» 1897.. وبين القوى الغربية التى دان النظام الدولى لحضارتها طوال القرنين الأخيرين.
فى هذا السياق، فقد كان من الطبيعى أن تكون مجالات الصراع بين العرب وإسرائيل لصالح الأخيرة- فى معية الغرب- إلى أن استولت فى العام 1967 على كامل أراضى فلسطين التاريخية، إضافة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية.. ومرتفعات الجولان السورية، بحيث أصبح من الصعب على العرب استردادها فى ضوء استمساك إسرائيل بفرائسها مثل كلاب الصيد وبالخطوط التى وصلت إليها قواتها، ما لم تندلع حربٌ إقليمية قائمة بالفعل، الكل فيها خاسر، من قبل أن تتراجع إسرائيل أمام الغرب عن تجاوزاتها الاستراتيجية، ومن هنا برزت أهمية التطبيع عربياً مع الغرب- من خلال مصر- بوصفها قاطرة العالم العربى الذى يسترشد ببوصلتها الاستراتيجية فى الصراع مع إسرائيل.. منذ مؤتمر لندن 1939، حرباً أم سلماً، ولتعيد من ثم تمحيص سياساتها التطبيعية مع الغرب لاسترداد الأراضى المحتلة، مع تجنب الإغراق فى التطبيع مع إسرائيل المعروف عنها عدوانيتها التوسعية لحين بلوغها الغايات النهائية «غير الواقعية» للمشروع الصهيونى، ذلك إن استطاعت إليها سبيلا حال داومت أحابيل استمالتها الغرب إلى جانبها، ما دعا مصر للتوجه خلال سنوات التصدى 1967-1976 نحو مقاربات مع كل من أطراف الثنائيتين القطبيتين الأخيرتين للنظام الدولى، إذ شهدت عواصمهم فى العام 1973.. محادثات على جانب كبير من الأهمية الاستراتيجية بين مستشار الرئيس المصرى للأمن القومى «حافظ إسماعيل».. وكل من رؤساء الدول الأربع الكبرى.. ومسئوليهم عن السياسة الخارجية، ابتداءً من موسكو فى يناير مع الرفيق «ليونيد بريجنيف»، إلى لندن فى فبراير مع رئيس الوزراء «إدوارد هيث»، ومنها فى ذات الشهر إلى واشنطن مع الرئيس «ريتشارد نيكسون» ومستشاره «كيسينجر»، قبل أن يتوجه إلى بون لمقابلة المستشار الألمانى «ويلى براندت»، وانتهاءً بباريس مع الرئيس «جورج بومبيدو»، ومع الجنرال «فرانكو» فى مدريد يونيو 1973، قبل أربعة شهور من قيام الحرب مع إسرائيل فى أكتوبر، والتى تمثل استثناءً عن الحروب السابقة- وقف فيها الغرب على الحياد- بالنسبة للصراع العربى مع إسرائيل، ولعقود تالية مازالت مداميكها صالحة للبناء عليها للتوصل إلى تسوية نهائية عادلة للمسألة الفلسطينية – الإسرائيلية، وعلى أساس المبادئ التى تمت مناقشة صلاحيتها- مع الغرب- للتطبيق منذ العام 1973، بشأن السيادة العربية على الأرض المحتلة مقابل السلام مع إسرائيل، الأمر الذى أعيد التأكيد عليه فى مبادرة القمة العربية للسلام فى بيروت 2002، كمتوسط حسابى للتطبيق على أساسه، سواء بالنسبة للتطبيع مع الغرب أو فى الضغط على إسرائيل لعدم التطبيع معها ما لم تلتزم بمبدأ «الأرض مقابل السلام».
إلى ذلك، وبعد مرور مياه كثيرة تحت جسور الصراع العربى مع إسرائيل خلال نصف القرن الأخير، تقف القوى الغربية اليوم (…) فى مواجهة الدولة العبرية.. كى تحذرها من مغبة إقدامها على ضم %30 من أراضى الضفة الغربية المحتلة إليها، سواء من بريطانيا التى سبق أن أعطت اسم «وطن اليهود القومى» عام 1917، أو من فرنسا التى حاربت مصر مع إسرائيل 1956، كما ساهمت فى تسليحها، وفى بناء مشروعها النووى نهاية الخمسينيات، أو من امتناع الولايات المتحدة الأميركية عن إعطاء موقف صريح لكى تنفذ إسرائيل خطط الضم، وذلك عبر موقف غير معتاد من الدول الغربية التى سبق لها إصدار الإعلان الثلاثى العام 1950 الضامن لأمن وتفوق إسرائيل، ناهيك عن توقيع أكثر من ألف نائب فى البرلمان الأوروبى على بيان يندد بخطط الضم الإسرائيلية، ما شجع مجلس الأمن على عقد جلسة افتراضية انتهت إلى إدانة صريحة لأى تنفيذ لتلك الخطط التوسعية، كونها تؤدى إلى زعزعة السعى نحو تحقيق سلام عادل فى الشرق الأوسط، الأمر الذى يمثل ضرورة استراتيجية باتت حتمية، من خلال جهود مصرية استغرقت سنوات لتأكيد العلاقة بين الأمن الأوروبى وأمن البحر المتوسط والشرق الأوسط، وفى إطار عربى من التطبيع رهن التوافق بين روسيا وبين قوى الغرب، من باب مصالحهما بالمنطقة العربية، غير ملزم بالمطلق للتطبيع مع إسرائيل التى وصلت بمساعدة غربية تاريخية ليست غير نهائية إلى سقف من التطلعات التوسعية، لا مزيد عليها إلا بالانحسار المعاكس عنها.