فى أبريل 2025، وقف الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون فى قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة، مخاطبًا شباب مصر بقوله: “لديكم حضارة تحدّث عنها شامبليون، وهناك مصرى من كل اثنين يقل سنه عن 25 عامًا.”كان ذلك التصريح أكثر من مجرد مجاملة دبلوماسية. لقد بدا وكأنه امتداد طبيعى للتاريخ المشترك والعميق بين فرنسا ومصر، ذلك التاريخ الذى انطلق من حجر رشيد، مرورًا بحملة نابليون، وصولًا إلى مشاريع التعاون الأكاديمى بين جامعات البلدين، التى شهدت توقيع 42 اتفاقية خلال هذه الزيارة التاريخية.
غير أن ذكر شامبليون من قِبل الرئيس الفرنسي، وفى هذا الموقع تحديدًا، يفتح أمامنا الباب أمام قراءة أعمق للرموز التى تعكس هذا التاريخ، وآن أوان تصحيح بعض مفاهيمها الجوهرية. فبينما تحتفى مصر بإنجاز شامبليون العلمي، تظل نسخة تمثاله ١٨٧٥ المثيرة للجدل فى ساحة الكولديج دى فرانس / السوربون – والذى يصوّره واضعًا حذاءه فوق رأس ملك فرعونى محطم ومثلوم – نقطة توتر صامتة، تكاد تصرخ من فرط الرمزية الجارحة لمصر والمصريين!
نحن لا نعترض على تخليد شامبليون، العالم الذى أعاد الحياة لأبجدية الحضارة المصرية. بل نحترم هذا الجهد العلمى المكمل لمن سبقوه. لكن ما نرفضه هو الطريقة التى صُوّر بها هذا الإنجاز! لا كباب مفتوح على المعرفة، بل كقدم تدعس رموز السيادة الثقافية لحضارة عمرها سبعة آلاف عام.
إن التمثال، الذى نحته أوجست بارتولدى عام 1875، يحمل فى تفاصيله تشويهًا فنيًا وسياسيًا وتاريخيًا فى آنٍ معًا. لقد تجاوز التوثيق العلمى إلى الإيحاء بالهيمنة الحضارية والعنصرية الثقافية، وهى رسالة لا تتمشى لا مع روح شامبليون الحقيقية، ولا مع قيم فرنسا المعاصرة، التى عبّر عنها الرئيس ماكرون فى أكثر من مناسبة بدعوته إلى مراجعة الذاكرة الاستعمارية، ورد الاعتبار للشعوب التى تأذت من رموز تلك المرحلة.
ولذلك، فإن دعوة مصر لإعادة تمثال شامبليون إلى متحف بارتولدى فى مدينة كولمار – مسقط رأس النحات – ليست دعوة إلى محو التاريخ او تدخل فى الشأن الفرنسي، بل إلى وضعه فى إطاره الصحيح. إلى أن نترك العمل الفنى محفوظًا، مشروحًا، مؤطرًا فى متحف، لا فى ساحة أكاديمية عريقة ترمز للعلم والاحترام المتبادل بين مصر وفرنسا على مر العصور.
لقد شاهدنا العالم كله يعيد تقييم رموزه! بريطانيا أزالت تماثيل تجار الرقيق، وأمريكا نقلت تماثيل شخصيات كونفدرالية إلى المتاحف، وجنوب أفريقيا واجهت تراثها البصرى الاستعمارى بشجاعة. فهل آن لفرنسا – بلد الأنوار والمعرفة والحقوق – أن تعيد النظر فى تمثال واحد يُسيء إلى أمة بأكملها؟
إن ماكرون، الذى طالب بإعادة قطع أثرية أفريقية من المتاحف الفرنسية، هو ذاته القادر على دعم هذا الطلب الرمزى النبيل. ولا نطلب أكثر من أن يكون تمثال شامبليون فى مكان يحترم قيمته كفن، ويخفف من إيحاءاته المؤذية لشعب صنع الحضارة التى استكمل فك رموزها على يديه.
حين تحدث ماكرون عن شامبليون من جامعة القاهرة، فتلك كانت مصافحة تاريخية بين الماضى والمستقبل، فلتكن الخطوة التالية مصافحة أخرى… بين الكرامة والبصيرة، وتجديدًا جادًا لمبادئ الثورة الفرنسية بعودة الإخاء والحرية والمساواة فى صورة عصرية، للاعتراف بحق الشعوب فى استعادة كرامتها.
إن الربط الذكى للرئيس ماكرون فى كلمته بين الحضارة المصرية، وشامبليون، والجامعة المصرية وشباب المصريين، أعاد للحياة الدبلوماسية والثقافية فتح ملف قديم عمره 150 عامًا من الصمت والمحاولات الشائكة لتصحيح رمزية ومفهوم التمثال المسيء، ورفع وطأته من على رأس الكرامة المصرية! ربما لف الصمت والتجاهل لهذا المعنى منذ 1875 وحتى 2012 تاريخ أول نشر لصورة التمثال على الإنترنت، وما جهرت بعدها الكلمات والمقالات والمناشدات المصرية والعربية والعالمية بقسوة معنى ورمزية التمثال على الكرامة المصرية والمصريين، أمام التمسك الفرنسى بالتمثال وموقعه تأصيلا لقانون التراث الفرنسى وحق فرنسا فى حماية تاريخها الفنى والثقافي!
ومع ذلك فإن اختزال وتركيز رمزية العلاقات الفرنسية المصرية فى بقاء واستمرار هذا التمثال بموقعه كمقولة السفير الفرنسى بالقاهرة “ستيفان روماتيه” عام 2019، يفرغ المعنى الحضارى النبيل الذى قدمه الرئيس ماكرون عن العلاقة بين مصر وفرنسا، لتأتى كلمته فى 2025 كبارقة نور لإعادة الصياغة الثقافية لهذه العلاقة المؤسسة على التكافؤ والاحترام والاعتبار بين البلدين، ولمحة إيجابية لمصر قد تغتنمها فى مراجعة إدارة ماكرون فى طلبها العادل بإعادة التمثال لموطنه الطبيعى فى متحف أوجست بارتولدى بكولمار.
إن زيارة وكلمة الرئيس إيمانويل ماكرون يجب أن تعامل بذات المستوى الدبلوماسى والقانونى للوعى بقيمتها، وسندا دبلوماسيا جادا لمصر والمصريين للتقدم بطلب رسمى للحكومة الفرنسية، بترجمة هذا التقدير والاحترام الماكرونى للحضارة المصرية ومصر الجديدة، للنظر فى مطلبها العادل بحل هذه المأساة والوجيعة الثقافية والحضارية لمدة 150 عاما. إن أحفاد بُناة الأهرام، ومُبدعى رموز الحضارة المصرية القديم أكثر من يقدرون ويقيمون الأعمال الفنية الأصيلة، ولا خلاف على القيمة الفنية المجردة للتمثال كعمل فنى مستوفى شكليته، ولكن رمزيته – للأسف – تُحوِّل النور الفرنسى إلى شعلةٍ محرقة إذا ما غاب عنه الإنسانية! وهذا ما لا ينسجم مع القيم الفرنسية المعاصرة!
هذا المقال دعوة ونداء للإدارة المصرية للتقدم بقلب ثابت وحق قانونى وأدبى وثقافى أصيل، لاتخاذ إجراءات جادة لغلق ملف قديم آن أوان حسمه، بفهم وتقدير حقيقى من رأس الإدارة الفرنسية، فهى لحظة تاريخية نادرة، يجب ألا تُهدر، لترجمة الاحترام الفرنسى المعاصر إلى فعل ثقافى وإنسانى عادل!
والله المستعان!
* محامى وكاتب مصرى