نظر الشاب العشرينى لسائق التاكسى الستينى وقال: من سيحكم الغد؟ صمت الستينى وردّ: “غدى أم غدك، أم غد الآخرين هنا، أم اللى حولنا، أم اللى هناك؟ كلما كنت محددًا عرفنا نوصل”! ردّ الشاب متعجبًا: “خليك مباشر لأنى تهت! أنا بسأل سؤالنا كلنا، فلا تضيعنى بتشتتك!” – فابتسم السائق معقّبًا: “لو إجابتى تشتت فسؤالك ضياع! أنت مهتم بالأشخاص وأنا مهتم بالمستقبل، الغد إما استمرار للحاضر، أو تطوير له، أو نقضه كاملًا.
الحاضر يعنى بشرًا فى مكان فى زمن معين، يعنى تاريخًا وجغرافيا ونظامًا. وربطك الغد أو بكرة بأشخاص لا يضمن لك استمرار حاضرك كما تراه أو تخشاه أو تطمع فيه! فيه حسابات أخرى للغد والحكم»! تعجّب الشاب وعاد لجداله: “بفرض اللى بتقوله سليم، فمن سيحكمه؟” – صمت الرجل برهة وردّ: أى حكم تقصد؟ الرسمى أم الحقيقى أم الواقعي؟ حكم السيطرة أم التلاعب؟ حكم الحاجة أم الصيد؟ حكم المصالح، أم المطامع، أم الأزمات؟ حكم المال أم المعرفة أم الخوف؟ حكم التنمية الذاتية أم الغير؟ حكم القيادة أم التبعية أم الحياد؟ حكم الذكاء الطبيعى أم الصناعى أم الروبوتات؟ حكم الشارع، أم المكاتب، أم الحدود؟ الموضوع مش سهل يا أستاذ، وحضرتك مش عارف تسأل لأجيبك صح»! – انتقل الصمت للشاب، وبدأ يكتشف الببغاء داخله، وقال: «حتى لو ردك قال هناك حكم للغد، فمن بقى سيحكمه؟» – نظر الستينى للطريق المختنق وعقّب ببطء: “اهتمامك بمن، يجعلك لا تدرك الحكم أو الغد! أكيد الشخصية مهمة، ولكن فى الظروف العادية، أما والعالم بيغلى فمحتاجين نحدد الأول استيعابنا لـ”حكم الغد” لنحدد من سيناسب حكمه؟ الموضوع ليس بسباق، أو أفضلية، أو إمكانيات، أو تربيطات، أو تأثير وتلاعب! يعنى أنا عندى 69 سنة، وعشت واشتغلت وخلفت خلال حزمة سنين! وكتير جدًّا ركزنا على من سيحكم؟ أشخاص، جماعات، توجهات، لكن كانت الدنيا غير الدنيا! والتاريخ والجغرافيا قادرين نحصرهم ونفهمهم شوية! لم يكن هناك إنترنت ولا ذكاء اصطناعي، ولا مليارديرات، ولا سوشيال ميديا، ولا ربيع عربي، ولا صراعات الجغرافيا، والكوارث الطبيعية، والبريكس، ومجموعة فاجنر، وطريق الحرير الجديد، والبيت الإبراهيمي، ونيوم! 50 سنة تقريبًا كلمة تطبيع خارج قاموسنا، كان فيه رموز ومحتوى ثقافى وفن وإعلام، الآن خريطة وعينا “بدون مسكة”! مخترَقة ومشخصنة ومتمصلحة! لا أقول إن حكم أمس أفضل من الحاضر عشان نكمل به للغد! ولكن التركيبة اختلفت، اللعبة انحلّت، اللعيبة طفشت.
ولحفظك للكل قد تضحى بالبعض، الغد فعلًا أصبح معضلة رهيبة! لا انت عارف مين مع مين على مين لصالح مين ليكسب مين؟ ولا انت عارف الأفضل تلبس مسوح المؤيد ولا المعارض ولا المحايد أم المراقب ولا منتظر فرج ربه؟ أكتر حاجة تخيفنى أن من يحكم الغد هو لقمة العيش اللى تأكلنى وولادى وأحفادي! ستبقى مصيبتنا كبيرة جدًّا، لأن اليد اللى تأكلك هتبوسها ولو مشفتش صاحبها أو غمضت عينك عنه! صدقنى يا أستاذ، انت صعبان عليا بجد! أنا كام يوم فالدنيا ومش هنتخب تاني، الباقى عليك وجيلك… هتكملوا كده، ولا تأكدوا اننا ظاهرة صوتية، ولا تحكّموا لقمة العيش؟» – قاربت سيجارة الشاب على الانتهاء، يستغرقه صوت الرجل وخنقة الزحام فى طريق لا تظهر له نهاية! وقال بصوت حاول يكون حياديًّا: «أكيد شايف كلامك، مش بس سامعه، واللى بتقوله وراه سنين لا شفتها ولا عشتها، لكن عايش خلفتها، واللى وصلتنا له، عشان كده كلنا مهتمين نركز من سيحكم الغد! الشارع أم المؤسسات، الجديد أم القديم، القوة، أم الخبرة، التجربة أم المقاوحة، الموضوع بسيط كما ترى، لكن للأمانة أقولك إن كلامك له معنى، ولو انه لم يحل أو يجاوب، ودى طريقة ناس كتير لما تعجز عن الحل، تقدمها لتوريطنا فى متاهات المقارنات، وتصرفنا عن تشخيص السؤال». تنفّس الستينى دخان الشاب وبلع باقيه، وقال: «شوف يا بنى، طالما معاك سجايرك وقادر تركب أوبر وتاكسى وتسأل السؤال ده، فمعناه عندك وقت تاخد معلوماتك وقراراتك من الشارع والنت والقهوة، وكل دول بتمشيهم محركات واحدة، تخليهم يسمعوا ويشوفوا اللى عايزينه! كل ده لا يغير بهل تقصد غدى أم غدك، أم غد الآخرين هنا، أم اللى حولنا، أم اللى هناك؟ أو معنى قصدك من الحكم؟ لأن الموضوع مش ببساطة سؤالك ولا تخيلك إنك ممكن تكون عنصر فى إجابة أو قرار! إحنا أعداد يا بنى فى جداول الحكومة والمؤسسات، والجماعات، والمرشحين، والبنوك، واللصوص، وغيرهم! كلهم عيونهم على الجغرافيا بعد ما خربطوا التاريخ، وسواء أردنا أم لا، مخططات إجابة سؤالك محسومة، فقط المحاولة لإنقاذ الجغرافيا من براثن الأزمات والطموح والطمع، لاحتمالية بدايتنا تاريخ جديد. لو عاوز إجابة فعندك إجابة صح وإجابة متجاوبة! الإجابة الصح من سيصلح هو القادر على حلول تطبق لا تُصور، شجاعة المحاسبة بعدل، التغيير بموضوعية، قدرة وسرعة تحصيل الواقع وتوازناته وطموحات المنطقة وتهديداتها، من سينحت كرامة مصرية جديدة ولا يعيد أمجاد الباب العالى أو ذهب المعز! من سيعرف يستفيد بجيلكم وصحوته، من يحرر الاقتصاد وتبعية المصالح وإسهال القوانين، من يعترف بالعدل فى مواردنا لتغل أرباحًا يضربها بعدالة، من يقف لنحر الوعى بسكين أوعى منه، من يتقن إدارة الجغرافيا بحكمة التاريخ ومفاوضة إستراتيجيات الكارتل بهوية الأصالة، من يعولم الجغرافيا ويحفظ التاريخ، من يعلمنا الصيد بدل إدماننا السمك والتسميك، من يحول وجودنا لقيمة مضافة لا عبء، من سيعترف بالاستثمار مناخًا لا قرارات وقوانين! سامحنى لو طولت عليك بس حقيقى الموضوع مش ببساطة حقائق الديون ولا الفقر والتسطح والبلطجة! إحنا فعلًا محتاجين نعرف من سيحكم الغد؟ لأنه جى جي، المشكلة أين سنكون نحن؟ احتمال جيلكم يقامر على باقى الجغرافيا ويقبض ثمن بيع التاريخ أو تهميشه، ونتحول كلنا معكم لمحطة خارج الخريطة! المصيبة انكم تشتروا انه أفضل وأأمن تنقلبوا لكوكب بدل التشمس؟ عمومًا إحنا تقريبًا وصلنا يا أستاذ والله يعينكم يا بني» – نظر الشاب بعين مرهَقة وقال: «يعنى تنصحنى بمن لحكم الغد؟»، فابتسم الستينى بوهن وقال، وهو يضع لقمة العيش فى جيبه: «مش قلت لك إذا كانت إجابتى تشتت فسؤالك ضياع؟ الله يعينك بس هقولك! الإجابة المتجاوبة يعرفها من يعرف الغد وأحكامه! أما الحكم فلله وحده!».
* محامى وكاتب مصرى