كمواطن مصرى مشغول – كغيره – بقضايا وطنه؛ وتشغله تغيرات جوهرية تمر بها مصر وشعبها، حاولت فهم الفرق والعلاقات بين الاقتصاد النظامى ودولتت الاقتصاد وعشوائيته والقطاع الخاص، وعلاقة الجميع بالناتج المحلى الإجمالي؟ وهل هى علاقات قديمة أم جديدة؟ مؤبدة أم مرحلية مبررة؟ ومدى تناسب استمرارها الحالى مع مقدرات ومستقبل الدولة الجديدة لتحقيق رؤية 2030؟ وتأثير ذلك بمستوى معيشتى كفرد وعضو مجتمع، يحتاج وعيه الجمعى فض الاشتباك بين التلاعب به وتبصيره! فإما يستوعب ويطمئن فيتفاهم ويتفاعل، أو يؤجج الجدل والإعاقة؟
محاصرة وتعريف المشكلة نصف حلها، ونجاح رصد وتحليل معطيات الفهم، يحتاج تجييش المتخصصين وزخم معلومات حيادية قد يصعب رصدها! بما يثمر أما التسليم للصورة الذهنية المخلوطة الآن، أو محاولة تفكيكها وإعادة طرحها بصورة مفهومة. بجميع الحالات فمعاصرتى وتأثرى كفرد ومجتمع بحالة الاقتصاد، يحتاج ولو محاولة.
أى طرح للفهم يحتاج استحضار الثوابت والمتغيرات! فمن الثوابت الرئيسية؛ جغرافية مصر ومواردها/ وأثرها بجيوسياستها إقليميًّا ودوليًّا وأمنها القومي/ دور نهر النيل والجيش بحياتها منذ القدم/ التأثر الدينى. أما المتغيرات فمنها؛ كتابة التاريخ/ حجم السكان وحالتهم الصحية/ النظم السياسية والاقتصادية/ تشكيل الشخصية المصرية عبر التاريخ/ التعليم والثقافة والفن/ حركة رأس المال وموقع القطاع الخاص/ خطط التنمية/ الحروب.
إن رصد علاقات وتفاعل الثوابت بالمتغيرات، بالتوالى والتوازى والتقاطع، يُظهر الصورة الذهنية والواقعية لمعنى الاقتصاد، كنشاط بشرى لإنتاج وتوزيع وتبادل واستهلاك السلع والخدمات، وتتدخل بتشكيله الثوابت بالمتغيرات! ولفهم الفرق والعلاقات المطروحة، حتمًا نفرق بين تلك الثوابت والمتغيرات بحالة السلم وحالة الحرب! فهل مصر بعد 2013 تعايش حالة حرب، تطلبت اقتصادًا نظاميًّا مرحليًّا ومطورًا لقديم – أم استجدت دولتة اقتصادية تطمس القطاع الخاص وتعوق التنمية؟
واقعيًّا وبعد الربيع العربى، تعانى المنطقة حروبًا تقليدية وأخرى خاصة! وتحديدًا لمصر؛ تقاطعت أزمات الثوابت بالمتغيرات فيها؛ من ارتفاع نسب البطالة، وتعثر وتوقف مئات المصانع، وتباطؤ حركة الإنتاج، لعشوائية إدارة الموارد الطبيعية، لتراجع معدلات الاستثمار، وارتفاع الدين المحلى، لتزايد الاستيراد، وانفجار اقتصاد الظل، لتداعيات الهجرة السورية بسوق العمل، ثم أزمة سد النهضة، وخطورة الأوضاع بليبيا وسيناء، استمرار أذرع الإخوان ببعض مفاصل الدولة، الطابور الخامس، تهديدات تركيا وقطر، زيادة السكان وتهاوى العشوائيات، تهرئ البنية التحتية، فساد إدارى وقطاع خاص ساداتى ومباركى، خطط تدمير مكونات الوعى الجمعى، كل تلك الأزمات، أحرجت الناتج المحلى الإجمالى كنفقات المستهلكين.. الإنفاق الحكومى.. إجمالى الاستثمار.. صافى الصادرات! ورغم ذلك تظل حتمية التنمية وإعادة بناء مصر، بتقسيمة النظام العالمى الجديد، معضلة! ليطرح السؤال نفسه، هل نبنى ونعمر دولة جديدة أم نرّبح مجتمع حالى ويذوى أحفاده؟
واقعيًّا؛ فمصر بعد 2013م، بحالة حرب تقليدية بسيناء ودفاعية بليبيا وردعية بإثيوبيا وتركيا، ومن جهة أخرى بحالة حرب خاصة أنجبت من تزاوج الأزمات السابقة، التشاؤم واليأس بنفوس الشعب وتشويش فكره وتخطيطه، وزرع انعدام الأمل والثقة بالنفس وإمكانية رؤية الغد، ليتأجج الجدل وإعاقة التنمية وتحقيق الدولة الجديدة.
منطقيًّا؛ المفترض حل الحربين بتغليب التفرغ والتركيز لتأمين وإرضاء البشر الحاليين، عن محاولات التنمية والاستثمار بالحجر لمستقبل المصريين! ولكن من يتصدى لهذه الحروب ويمول وينفذ حلولها – أهل الثوابت أم أهل المتغيرات؟
استوعب معى هذه الصورة، حرب تقليدية وحرب خاصة، وأزمة وجود وتنمية متعثرة، وعالم جديد يعاد صياغته، وفصائل تترصد وقوعك، وجسد وطن يتحلل بطمع المكاسب الآنية؟
حالتا الحرب المذكورتان حتَّمت استراتيجية اقتصاد الحرب، المختلفة عن أيديولوجية دولتت الاقتصاد منذ 1961 بارتدائها (الاشتراكية العربية) لتأميم الصناعة وفرض الحراسة وإعادة توزيع الأراضى وفرض ضرائب تصاعدية، وتدشين القطاع العام والإنتاج الحربى، باستخدام رؤية قوة مؤسسة الحكم، لكسب السيطرة والوصول للأراضى والموارد الاقتصادية الأخرى، ومع ذلك قابل هذه النظامية وجود وعى جمعى، يضوع بعبق قديم للوطنية والإصلاح الداخلى، بإرث تعليم الأجانب واستمرار رجال اقتصاد وسياسة وفكر ودين وتعليم وطبقة متوسطة قوية جدًّا، ومع ذلك تحولت حلول الاشتراكية لأدوات لدولتت الاقتصاد، التى لم توفق لتطوير أو إنقاذ الاقتصاد وبقيت آثارها.
اختلفت الرؤية بسلام السادات وإلغاء الحلول الاشتراكية، وتخفيف عبء الدفاع وفتح الاستثمار الأجنبى، ليتقلص الحضور النظامى سياسيًّا وحكوميًّا بعيدًا عن السوفيت والتوجه غربًا، لتنطلق الهيئة العربية للتصنيع مع الجيش لإعادة بناء وتأهيل المدن والبنية التحتية بمنطقة قناة السويس، وتمكنها هناك لاحقًا، وتفويض وزارة الدفاع لإنتاج الاحتياجات الأساسية كالغذاء والمعدات غير القتالية والخدمات للجيش، ليغلب على الاقتصاد العام وقتها الطابع الاستهلاكى لا الصناعى أو الإنتاجى.
تطورت الدولتة الاقتصادية مع مبارك، لتطويرها خلال 3 عهود، بشراكات خفيفة مع القطاع الخاص منذ 1991، وتوسع اتفاقى بالقطاع المدنى، تزامن مع برامج الخصخصة وبزوغ طبقة رجال الأعمال بزواج البزنس بالسياسة، ومسخ الخصخصة باستئساد هذه الطبقة، لتنافس اقتصاد الدولة، كروابط سياسية تمهد لعهد جديد مؤسس على الوساطة والريع، مقابل انحسار استثمارات القطاع الخاص بمشاريع التنمية والصناعة الحقيقية والبنية التحتية المؤسسة لاقتصاد يحلم بالتعافى. كل ذلك زامن بدء تراجع وتفتيت الشخصية المصرية، باغتيال مكونات الوعى الجمعى وتنطع اقتصاد الظل والعشوائيات وأفول الخبرات، والمحصلة قطاع خاص ضعيف الموارد البشرية والتدريب والإدارة والالتزام والانضباط!
ليأتى حكم الإخوان لينكب الاقتصاد بالصكوك الإسلامية، وقرض الصندوق الدولى، وشركات الجماعة، وفشل برنامج الـ100 يوم، وأزمة الوقود والكهرباء، وحزمة قروض خارجية 45.4 مليار$ وانفجار الدين العام، ومع ذلك حفظ الاقتصاد النظامى ثوابته صابرة، خلال عواصف قاسمة حتى 6/30!
التراكمات السابقة الزمت الدولة إعداد استراتيجية مرحلية لاقتصاد الحرب، وليس دولتة الاقتصادية أو الاقتصاد الميرى الصرف، فلمواجهة الحربين المذكورتين وتحدى إعادة بناء مصر (خاصة بعد ورث القطاع الخاص لآفات المبارك)، تعين تطوير مركزية دور الدولة مرحليًّا فى صنع القرار الاقتصادى، وتعاون القطاع الخاص لاستراتيجيتها للاستثمار الرأسمالى، لينطلق اقتصاد الحرب بمميزات الاقتصاد النظامى، غُنمًا بغُرم، لتمكين التطوير العقارى، وإنشاء مجمّعات الصناعة والنقل، واستخراج الموارد الطبيعية، والعلاقات مع القطاع الخاص، وزيادة رأسمال القطاع العام بالاستثمارات الخاصة، ولو اشتكى مؤقتًا القطاع الخاص ضعف منافسته لدولة حقيقية، بعد تعوده الاستئساد بمجتمع يعانى على حساب دولة منهكة!
إن فى 8 أو 10 سنوات اقتصاد حرب، بتغيرات جوهرية ملموسة (لم تحققها الاقتصادات السابقة)، وتفعيل قانون 2021/67 لتنظيم مشاركة القطاع الخاص بمشروعات البنية الأساسية، وترتيب دخول شركات الجيش البورصة، وخطط إعادة تأهيل القطاع الخاص، ما يشير لاقتراب بزوغ الدولة الجديدة، بصور لمصر أخرى.
هكذا طمأنت محاولة فهمى بأول المقال، لأتفاعل واستمر!
* محامى وكاتب مصرى